تحليل الخطاب "من اللسانيات الى السيميائيات"
أحمد يوسف
(أستاذ جامعي من الجزائر مقيم بفرنسا)
|
لسانيات الجملة:
إذا كانت دلالة الخطاب تتضمن في المعجم اللاتيني الحوار وكذا معاني
الخطابة فإن اللسانيات المعاصرة حددت جغرافية الخطاب عند حدود الجملة ، حيث حظيت
بالاهتمام والدرس بوصفها وحدة تتوافر على شرط النظام . وهي غير قابلة للتجزئة ،
واذا أمعنا النظر في ماهية الخطاب على أنه ملفوظ يشكل وحدة جوهرية خاضعة للتأمل
. ففي حقيقة الأمر فإن الخطاب ما هو إلا تسلسل من الجمل المتتابعة التي تصوغ
ماهيته في النهاية .
وهنا يظهر مأزق اللسانيات أو محدوديتها على الأصح . في معالجة
إشكالية الخطاب لأنها تحصره في نطاق الجملة التي نظر اليها اندريه مارتيني Andre Martinet أنها أصغر مقطع
ممثل بصورة كلية وتامة للخطاب . غير أن هذا لا يفضي الى عجز الدراسات اللسانية
في عدم قدرتها على معالجة قضايا أكبر من الجملة ، وبالتالي عدم عجزها عن تحليل
الخطاب . فهناك تباين في تحديد بنية الظاهرة اللغوية . فعلماء اللغة يحددون
الكلمة بأنها "وحدة في جملة تحدد معالم كل منها بإمكانية الوقوف عندها"
والجمله هي. "تتابع من الكلمات والمرقمات التنغيمية(1) وهكذا تتداخل
الكلمة والجملة في مفهوم متلاحم ، وعليه فإن الجملة تتشكل من "مجموع
الوحدات التي يصح أن يقف بينها (الكلمات ) بالاضافة الى درجة الصوت والتنغيم
والمفصل ، ونحو ذلك مما يدخل في ايضاح المعنى "(2).
إن هذا المعطى التصوري للجملة لا يقلل من قيمة اقترابها من مفهوم
الخطاب ، فإذا كانت عناصر مثل الكلمة والصوت والنغم تشكل إطار الجملة ، وتعمل عل
بناء المعنى، فهذا لا يعوق دراسة الخطاب من وجهة نظر لسانية .
إسهامات اللغويين العرب
إن المفهوم السابق للجملة يقترب كثيرا من أطروحات علماء اللغة
العربية عندما يعرفون ما. الكلام على أنه كل لفظ مستقل بنفسه مفيد لمعناه . وهو
الذي يسميه النحويون الجمل ، "نحو: زيد أخوك ، وقام محمد، وضرب سعيد، وفي
الدار أبوك ، وصه ومه ورويدا... فكل لفظ استقل بنفسه وجنيت منه ثمرة معناه فهو
كلام "(3). ويشير ابن هشام الى تحديد ماهية الجملة بمنطق اللساني المعاصر،
لأن الخطاب اللساني وضع أسسا اللساني المعا هو، لأن الخطاب اللساني وضع أسسا
ابستمولوجية لمنطلقاته المنهجية عندما أوضح الفروق القائمة بين اللغة والكلام ،
كما هو الشأن لدى دي سوسير في كتابه دروس في اللسانيات العامة إن "الكلام
هو القول المفيد بالقصد ، والمراد بالمفيد ما دل على معنى يحسن السكوت عليه
"(4)، وهو التصور ذاته الذي نلفيه عند هاريس .
إن اللغويين العرب أولوا أهمية كبرى للكلام وربطوه بماهية الجملة
وقسموا عناصرها الى اسمية وفعلية من حيث موقع المسند والمسند اليه وما أنجز عنها
من علاقات حددها تمام حسان في العلاقات السياقية (القرائن المعنوية وحصرها في
الاسناد) والتخصيص والنسبة والتبعية والمخالفة(5).
إذا كانت الجملة هي الكلام عند ابن جني، فهي تقابل القول عند
سيبويه ، أما جار الله الزمخشري فعرف الكلام بأنه "المركب من كلمتين أسندت
احداهما الى الأخرى... وذلك لا يتأتى إلا في اسمين كقولك زيد أخوك ، وبشر صاحبك
أو في فعل واسم نحو قولك ضرب زيد وانطلق بكر ويسمى جملة "(6)، إن تصور
اللغويين العرب للجملة وصلتها بالكلام لا يخلو من غموض وتناقض في بعض الأحايين .
هناك تصور آخر للعلاقة بين الجملة والكلام نتيجة للفروق التي تكمن
بينهما فيقول الرضي "والفرق بين الكلام والجملة أن الجملة ما تضمن الاسناد
الأصلي سواء كانت مقصودة لذاتها أولا كالجملة التي هي خبر المبتدأ وسائر ما ذكر
من الجمل .. والكلام ما تضمن الاسناد الأصلي وكان مقصودا لذاته فكل كلام جملة
ولا ينعكس "(7).
بين لسانيات الجملة ولسانيات الكلام
هناك إذن _طرخان يتمثلان في لسانيات الجملة ولسانيات الكلام ، فأين
نضع مفهوم الخطاب ضمن هذين الطرحين . فإذا قررنا بأن الخطاب مجموعة جمل تتوافر
على شرط النظام ، حتى يتسنى درسه وملاحظته فإننا نكون قد صدمنا المنطق الصارم
للسانيات التي تحدد موضوعها في الجملة ولا تتجاوزه . فإن الخطاب كما يرى رولان
بارت "يمتلك وحداته وقواعده و" نحوه ":
فما بعد الجملة ، ورغم أن الخطاب مكون فقط من جمل ، فمن الطبيعي أن
يكون الخطاب (هذا الما بعد) موضوعا للسانيات ثانية . وقد كان للسانيات الخطاب
هذه ، ولفترة جد طويلة ، اسم مجيد (الا وهو )
البلاغة . لكن وكنتيجة للعبة تاريخية ، وبانتقال البلاغة الى صف
الآداب الجميلة ، وانفصال هذه الأخيرة عن دراسة اللغة فقد أصبح من اللازم حديثا
العودة الى إثارة المشكل من جديد"(8).
إن اثارة بارت لها.ا المشكل كان منطلقه الاقتراب من فكرة البنية
السر دية ولفتها وبالتحديد دراسة ما بعد الجملة ويبدو ظاهريا نقد بارت لجمود
اللسانيات عند حدود ضيقة محصورة في الجملة لكنه يرى بأنه لا مندوحة من مقاربة
البنية السر دية من منطلق لساني الى درجة إقراره بمعقولية "التسليم (بوجود)
علاقة تماثلية بين الجملة والخطاب ، و(ذلك ) اعتبارا الى أن نفس التنظيم الشكلي
، هو ما ينظم ظاهريا كل الانساق السيميائية مهما اختلفت موادها وأبعادها: هكذا
سيصبح الخطاب "جملة كبيرة " (ولا تكون وحداتها بالضرورة جملا) تماما
مثلما ستكون الجملة في استعانتها ببعض المواصفات "خطابا صغيرا"(...)
فمن المشروع إذن التسليم بعلاقة ثانوية بين الجملة والخطاب ومنسمي هذه العلاقة
اعتبارا لطابعها الشكلي المحض ، علاقة تماثلية "(9) وانطلاقا من هذه
الفرضية التي وضعها بارت خلص الى أن السرد من وجهة التحليل البنيوي يعد
"طرفا في الجملة دون أن يكون في المستطاع أبدا اختزاله الى
"مجرد" مجموعة من الجمل . فالسرد جملة كبيرة . وهو يكون بطريقة ما مثل
كل جملة تقريرية Conaontative مشروع سرد صغير"(10)
لا تزال حقول تحليل الخطاب تتراوح بين الذين يتشبثون بمنطق صرامة
اللسانيات وتضييق مجالاتها المعرفية وبين من يدعون الى نهج المرونة في الاقتراب
من فضاءات الخطاب وتوسيع مجالات اللسانيات لتشمل رحابة المعرفة وتشعباتها
ولاسيما أن فلسفة العصر الحديث هي اللغة بوصفها قناة لكل معرفة متوخاة .
المرجعية اللسانية في تحليل الخطاب
بظهور اللسانيات التاريخية في القرن التاسع عشر كانت القواعد
العامة تبحث عن ايجاد تفسير للاستعمالات الخاصة للغة وفق قواعد عامة تتأسس حول
المنطق . وقد كان اللغويون العرب القداس سباقين الى رسم هذه الاستراتيجية للغة
العربية . فتأسس على أيديهم علم أصول النحو مستثمرين المنطق اليوناني وعلم أصول
الفقه . غير أن ميلاد اللسانيات التاريخية في أوروبا حدد تصورات جديدة لم تكن
متبلورة في السابق ، مثل التغيرات التي تشهدها اللغة فهي ليست رهن الارادة
الواعية للبشر وانما ضرورة داخلية . كما أنها طبيعية وتخضع للتنظيم الداخلي
للغات .
ومن أبرز معالم اللسانيات التاريخية ظهور مؤلف الألماني في .بوب F-Bopp "نظام التصريف للغة السنسكريتية
مقارنة مع اللغات الاغريقية واللاتينية والفارسية والجرمانية " عام 1816.
فقد كان إعلانا عن ميلاد النحو المقارن ، رفقة الأخوة شليجل وجريم وشليغر. فسمح
بايجاد القرابة بين اللغة السنسكريتية المقدسة للهند القديمة وأغلب اللغات
الأوروبية القديمة والحديثة . وأخذت الدراسات اللسانية هذا المنحى حتى مع
"النحويين الجدد" في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، الذين تطلعوا
الى تجديد النحو المقارن . بحيث دعوا الى تفسير التغيرات الحاصلة داخل اللغة
وعدم الوقوف عند وصفها، ورأوا أن الأسباب الوحيدة القابلة للمراجعة هي البحث عن
نشاط الفاعلين المتكلمين ، وفضلوا تحديد مسافة لدراسة التغيرات اللغوية . وكما
هو واضح فإن طبيعة اللسانيات التاريخية وموضوعاتها لم تسمح بمعالجة موضوع الخطاب
معالجة ذات صلة بجوهر اللفة . فالتحليل التعاقبي الذي طبع المنهج التاريخي في
الدراسات اللغوية فرض على الباحث السويسري فرديناند دي سوسير .F desoussure أن يؤسس معالم اللسانيات البنيوية ، ويرسم خطابا
ابستمولوجيا يتعامل مع نظام اللغة بمنطق علمي جديد لا يخفي أصوله الفلسفية
والعلمية (علم الاقتصاد/ علم الاجتماع .. الخ ). وأبرز المقولات اللسانية التي
انتهى اليها هي:
1- مقولة التزامن والتعاقب SYMCHAROMIECET DIACHRONIE
2- اللغة والكلام LANGUE ETPAROLE
3- النسقي والاستبدالي SYNTAGMATIQUE ET PARADIGMATIQUE
4- اعتباطية العلامة (الدال والمدلول ).
إن التحليل البنيوي للغة ترك مجالا واسعا وفضاء خصبا لدراسة الخطاب
من مستويات عديدة : - المستوى الصوتي
- المستوى التركيبي.
- المستوى الصرفي
- المستوى الدلالي
- المستوى المعجمي
- حتى المستوى البلاغي
وذلك انطلاقا من اطروحات ابستمولوجية لعلم اللغة . والتعيين بينها
وبين الكلام الذي يتسم بالتصرف الفردي للمؤسسة الاجتماعية للغة ، فهو نشاط يتسم
بالتحول والتغير ويتيح فرصا لتحليله من توجهات علمية عديدة : نفسية ، اجتماعية ،
انثروبولوجية .. الخ .
وضعية تحليل الخطاب
إن مصطلح الخطاب يرادف الكلام لدى سوسير، إن مصطلح الخطاب يرادف
الكلام لدى سو سير، وبالتالي يعارض اللغة ومن سمات الكلام التعدد والتلون
والتنوع ، لهذا فإن اللسانيات لم تر فيه حدة الموضوع التي يمكن للعلم أن يقبل
عليها بالدرس والملاحظة .
لقد فرق فرديناند دي سوسير بين اللغة والكلام : "إن اللغة
والكلام عندنا ليسا بشي ء واحد، فإنما هي منه بمثابة قسم معين وان كان أساسيا ،
والحق يقال ، فهي في الأن نفسه نتاج اجتماعي لملكة الكلام ومجموعة من المواضعات
يتبناها الكيان الاجتماعي ليمكن الأفراد من ممارسة هذه الملكة . واذا أخذنا
الكلام جملة بدا لنا متعدد الأشكال متباين المقومات موزعا في الآن نفسه ، الى ما
هو فردي، والى ما هو اجتماعي... أما اللغة فهي على عكس ذلك ، كل بذاته ومبدأ من
مبادي،
التبويب " (11)
ويمكن استنتاج خصائص الخطاب بالمفهوم السوسيري بأنها تتوافر على العنصر
الفيزيائي (الموجات الصوتية ) والعنصر الفيزيولوجي (التصويت والسماع ) والعنصر
النفسي (الصور اللفظية والمتصورات ) وتنحصر طبيعة دراسته في قسمين :
أولا 0 قسم جوهري يرتكز موضوعه على اللغة ذات الطابع الجماعي
المستقل عن الفرد . وهو أقرب الى الدراسات النفسية التي تحلل الخطاب تحليلا
نفسيا بحتا.
ثانيا : قسم ثانوي ينحصر موضوعه في الجانب الفردي من الكلام (اللفظ
بما في ذلك عملية التصويت ) ويتعلق بالجانب النفسي الفيزيائي. ولكن مهما يكن من
فروق بين اللغة والكلام فإنهما متلازمان ومتواصلان وعلى الرغم مما يبدو للوهلة الأولى
من أن دي سوسير قد أهمل لسانيات الكلام وأبعدها من صفتها العلمية لافتقارها
لعنصر الانسجام والوحدة ، ويرى بعض الباحثين بأن "سوسير لم ينف الكلام ،
ولم يبعده من الدراسة اللسانية ، كما قد توهم البعض ، والا لما كان مقبولا حديثه
عن لسانيات الكلام ، والمراد بذلك أن الكلام - أي الذات المتكلمة - لا يغيب في
الدراسة اللسانية إلا مؤقتا وفقا لمتطلبات منهجية مادام يستحضر ويخصص له حيزا في
الدراسة اللسانية . صحيح أنه ليس من صميم الدراسة اللسانية الصارمة لأن دراسته
لا تقوم إلا بتدخل عدة علوم ، أي عدة مناهج تختلف من حيث الطبيعة والجوهر مع
المنهج اللساني المقترح . لهذا السبب أكد سوسير على ضرورة التمييز بين هذين
النوعين من الدراسه "(12).
إن الوقائع الكلامية في واقع الامر لم تحظ بالاهتمام العلمي الكبير
من قبل سوسير كما هو الحال بالنسبة للغة ، لهذا فإننا لا نحصل على متصورات منهجية
وأسس ابستمولوجية لعلم الخطاب في دروس سوسير ،. وقد أثر ذلك سلبا في الدرس
اللساني حيث مال الى التضييق والحصر. وقد دعا بعض علماء اللغة المعا هوين الى
تخليص اللسانيات من الجمود والضيق ، والانتقال بها الى مجال الحركة والسعة . وقد
دافع نوام تشومسكي عن هذا الاتجاه حين حدد واحدة "من الاشكاليات
الاستراتيجية الرئيسية عندما يتساءل عن المدى الذي يحرز هذا التضييق المتعمد
كمصدر للتبصر العلمي العميق ، وهل ينتفىر بانتفاشه ثم عن المدى الذي يقلل به هذا
التضييق إمكانيات الاكتشافات الهامة"(13).
لكي تحقق اللسانيات استكشافات جديدة في مجال علم "تحليل
الخطاب" ينبغي أن تفك عزلتها بالتفاعل مع حقول العلوم الانسانية . ولا تبقى
حبيسة زاوية ضيقة ومحدودة ، وهذا الطموح يسمح بإبراز قضايا كثيرة تتعلق
بالاشكالية اللسانية وموقع تحليل الخطاب ، وسيفني ال إثارة أسئلة جوهرية ذات صلة
بنظرية النص ونظرية القراءة ، والشروط التي تحيط بفضاء الخطاب منها ما هو معرفي
ومنها ما يتصل بالسوسيو تاريخي عندما أشار دي سوسير الى السيميولوجية ، ذلك
العلم الذي لم يكن سوى تصور أتاح إمكانات دمج اللسانيات في منظومة العلوم
الانسانية واحتكاكها بالعلوم الأخرى. وهكذا فإن اللغة بالمفهوم السيميولوجي أضحت
مجموعة من العلامات وأن الظاهرة اللغوية هي ظاهرة سيميائية ستكون مادة خصبة
للمنهج السيميائي في تحليله للخطاب مع تجاوز الثنائية السوسيرية (اللغة الكلام )
مع التركيز على اهتمام السيميائي بالاجتماعي ، وحينئذ سيصير الكلام بوصفه انجازا
فرديا غير زي أهمية في مجال البحوث السيميائية .. وقبل هذا فإن التحليل البنيوي
استفاد من المنهجية اللسانية فصار تحليل بنية النصوص في ذاتها ولذاتها، وذلك
بفضل المقولة التزامنية في دراسة اللغة .
يثني لويس يامسليف L. Hjelmslev على جهود دي سوسير ويعده المؤسس الأول
للسانيات البنيوية ، على الرغم مما يبدو من اخلاصه العلمي لدى سو سير، إلا أن
توجهاته العلمية واهتمامه بالمنطق الرياض ومعر فته الواسعة باللغات القديمة
والحديثة ، مكنته من صياغة لسانيات موسومة بالروح الرياضية فكانت منظوميته Glossématique إضافة نوعية للدراسات اللسانية المعاصرة . فاللغة لا يمكن
- في نظره . فصلها عن الانسان ، فهي الأداة التي بفضلها يمكن صياغة مشاعره
وانفعالاته وجهوده وارادته وحالاته ، فبها يمكن أن يؤثر ويتأثر(14). وتتركز
اهتمامات الألسنية حول مسالة البنيه (15)، لهذا يتجاوز المستوى الفونولوجي ليهتم
بمشكلات التعبير ووحدات المحتوى. فاللغة هي قبل كل شي ء شكل وهي في أن واحد
تعبير ومحتوى . وقد استطاع يا سليف تأسيس حلقة كوبنهاجن وتشكيل فرق للعسل ،
وتكوين نظرية prolegomenes لمدة عشر سنوات من البحث
العلمي المبني على النظرة التجريبية القائمة على الملاحظة والاختيار. فالدرس
اللساني يتسم في رأيه بالانسجام والشمول والبساطة ولهذا يرى أن النظرية اللغوية
انظرية استنباطية تشتمل على مبدأ الكلية Totalite فهي قابلة للتطبيق على جميع اللغات
الانسانية .
إن يامسليف يحدثنا عن مبدأ التحليل وصيفه ونلفي حديثا عن النص في
كتاباته ولا نجد تصورا علميا واضح المعالم عن الخطاب ، باستثناء حديثه عن
محتوياته السيميائية وعن اللغة الايحائية .
حتى اللسانيات الوظيفية التي تراهن على مفهوم التواصل بوصفه أهم
الوظائف الأساسية للغة وارتباط التطور اللغوي بمبدأ الاقتصاد. لم تعالج موضوع
الخطاب . وهكذا بدا وكأنه ليس من صميم الاشكالية اللسانية . وان كانت المدارس
اللسانية تعالج قضايا جوهرية ذات صلة بتحليل الخطاب . فنجد اندريه مارتيني يتحدث
عن التحليل التركيبي للمدونة أو المتن على أنه مجموعة علاقات الترابط ، في
الفصل الرابع من كتاب "عناصر اللسانيات العامه " الذي خصصه
للوحدات الدالة نجد تحليلا للملفوظات ولكن انطلاقا من مفهوم التواصل للغة ،
فهناك مقاربات لتحليل مستويات الخطاب ، دون الحديث عن ماهيته ويمكن أن نخلص الى
نتيجة أن موضوع الخطاب وجد فراغا كبيرا في أطروحات بعض المدارس اللسانية الحديثة
. على الرغم من أنه أصبح حقيقة فرضت استعمالها في حقل علم المصطلحات وأصبحت
متداولة في أدبيات العلوم الانسانية ، حتى لازمت بعضا منها. فنجد
حديثا شائعا لدى العامة عن الخطاب السياسي . وتحولاته وخصائصه ،
وأصبح بديلا لمفهوم الخطبة والخطابة في التراث الاغريقي والتراث العربي
الاسلامي.
إن إميل بنفيست على E . Benveniste . يعالج مشكل الخطاب معالجة لسانية فالجملة
بالنسبة اليه وحدة لسانية لا تؤلف صنفا شكليا من الوحدات المتعارضة بينها، مثل
تعارض القونيمات الفونيمات أو الفونيمات مع المورفيمات ،أو المفردات مع المفردات
.
هناك طرح منهجي مهم جدا يشير اليه جان ديبوا Jean dubois عندما يقول "مع
الجملة نترك إطار اللغة بوصفها أداة للتواصل . في هذا المجال تتوقف الجملة أن
تكون موضوعا... وتصير وحدة فالجملة هي وحدة الخطاب "(17).
يركز إميل بنفيسة على قيمة عملية التلفظ التي لم تنل اهتمام
اللغويين القدامى، فقد كان ينظر اليها بوصفها موضوعا لا يندرج في نقاط الدراسة
اللسانية . ولكنها أضحت مادة جديرة بالاهتمام نظرا لأنها تنقل اللغة من سكونيتها
الى حركية الاستعمال الفردي (الكلام والخطاب )، إن الجهاز الشكلاني للتلفظ عنصر
من عناصر اللغة التي تشكل ماهية الخطاب . فتحديد العلاقة بين الباث والمتلقي،
تسمح للفاعل المتلفظ أن يجد منزلة في الخطاب ، وقد يجد أيضا الفلاسفة ضألتهم في
البحث عن الذاتية التي تتجل في حرية كلام الفاعل المتلفظ الفردية . إن بنفيسة
يراهن على مركز الفاعل المتلفظ في الخطاب ، وهذا لا يعني تطابق الذاتية المغلقة
مع الجهاز الشكلاني لعملية التلفظ ، فهو بذلك يكون قد أسهم في إدخال عالم الخطاب
الى اللسانيات ، ويعد من الموضوعات الجديدة في حقل دراسات اللسانيات المعاصرة ،
التي ما فتشت تعرف استكشافات علمية ، وصعوبات منهجية ، وهكذا تم توسيع نطاق
موضوع اللسانيات ولاسيما عملية التلفظ وصلتها بالخطاب الذي حفز الدراسات على
البحث عن مناهج التحليل . إن ربط تصور الملفوظ بالخطاب كان يقتضي وضع قواعد
للتسلسل وللمسار الذي يتوافر على قابلية التعبير بالكلام ، غير أنه ينبغي
الاشارة الى أن الملفوظ وحده لا يحدد الخطاب إلا إذا أضيفت اليه وضعية الاتصال .
dis cours = situation de
comminucation + enoncé
التحليل التوزيعي
إن النظرية التوزيعية في اللسانيات الحديثة ، أسهمت بفضل جهود
بلومفيلد Ploomfield) ) وهاويس Z. S. Harris) )في دراسة قواعد الجمل ، وتحليلها بوصفها وحدات ممكنة في
لغة معينة بمعنى يجب أن تتوافر فيها القابلية للتحقيق بهذا التصور لقواعد الجمل
يظل تحليل الخطاب يبحث عن معرفة المقاييس وبنائها، وكذلك اعتبار مجموعة من
السلسلات الوصفية على أنها متتاليات لجمل ملفوظة .(Phrases - enonces ) فهي تشكل في نظر
هاريس مؤسسة لشبكات من التكافؤ بين جمل وجمل متتالية . ويحيلنا ريمون طحان
ودينين بيطار طحان الى التجريد الذي لازم غراما طيق الجمل وما تفرع منها من
مفاهيم استقتها من اللسانيات وعلم الدلالة فمنها:
- مفهوم الأصولية : هي الجملة التي تتمتع بالصحة الدلالية والمنطق
اللغوي، فهي تخلو من التنافر الصوتي، وتخضع بنيتها التركيبية لقواعد
اللغة .
- مفهوم دلالة الجملة : هناك إشكال معرفي تجده اللسانيات في تحديد
ماهية الجملة . فإذا كانت "تتألف من عناصر تعود الى ثبت مغلق ، ومن أصوات
محدودة العدد ترتبط بالمعنى (...) ولكن ... هناك بنى وجمل تختلف في معناها
وتتحقق بأشكال متشابهة ، وهناك أيضا بنى وجمل
تتشابه في معناها وتتحقق بأشكال مختلفه "(18) .
إن تحليل الخطاب دفع هاريس الى تعريف مجموعة التكافؤ والتقارب .
بين ملفوظين حتى يبرز طريقته المنهجية التي ركزت على النص الاشهاري، ويشير ديبوا
الى المفهوم الجديد عن طريق نص تم بناؤه . فالخطاب السياسي لحرب الجزائر مثلا قد
درس على أساس أنه الخطاب الذي دفع الى تمثيل العلاقة الموجودة بين موضوعات
الجزائر وفرنسا (19).
لقد ارتبط التحليل التوزيعي بالنزعة السلوكية Behavieorisme) )التي راجت في الولايات المتحدة الأمريكية بداية منذ سنة
1920، فكان من أهدافها تحقيق الموضوعية في دراستها، وقد حمل لواءها ليونار
بلومفيلد ، وتجلت مبادي، المدرسة التوزيعية في محا ولتها لتحليل الخطاب ودراسة
توزيع الوحدات اللسانية عن طريق المدونة Corpus) )والوحدات كما أسلفنا القول _ غير أن
الذي يميز هاريس اختياره لطرائق التعامل مع النصوص اللغوية . فالنص الاشهاري
يمتاز بتكرار الأشكال التي بالوصول الى بنيته . وكذلك تأكيده على العلاقات
القائمة بين الجمل وتفضي الى سلسلة من الجمل المتكافئة ، وعليه فإن مبدأ التحويل
الذي أقره هاريس يتضح في تحليل العلاقات التي تؤلف بين الجمل ، وهذا التصور أضفى
الصفة الاجرائية لعملية تحليل الخطاب ، بل يعد لبنة من لبنات "علم
الخطاب ".
تعد إضافات المدرسة التوليدية التحويلية امتدادا لجهود بلومفيلد
وهاريس ويمكن وضع مفهوم الخطاب في مقابل ثنائية نو شمسكي N. Chomsky) )الكفاية والأداء اللغوي. إن ما يمكن استخلاصه من نظرية
نو شمسكي تخطيها للدراسة السطحية التي تنتهجها اللسانيات البنيوية ولا تتعداها
للبحث عن المستوى العميق للكلام ولا تأخذ مبدأ التأويل في حسبانها. إن الدرس
التوليدي التحويلي يعالج عملية التكلم ومكانيزماتها التي تظهر في الاستعمال
المبدع للغة .
التحليل السوسيولوجي للخطاب
يربط باختين M.Bakhtine نظرية
اليللفظ بمستويات التركيب ، لأن كل تحليل للخطاب في تصوره تحليل لمتن اللتلفظ
الحي. وهو سمة من السمات المحسوسة لأفعال الكلام كما أنه يلاحظ قصور اللسانيات
في احتواء موضوع التلفظ ، ويبدو هذا لعجز اللساني واضحا في الاهتمام بالجملة
وعدم الاقتراب من الخطاب .إن اللساني يشعر بارتياح أكثر وسط الجملة ، وكلما
اقترب من تخوم الخطاب من (التلفظ ) العام ، فهو ليس مسلحا لتناول الكل ، ليس من
بين مقولات اللسانيات مقولة تصلح لتحديد الكل . والواقع أن المقولات اللسانية لا
يمكن تطبيقها في حالتها هذه إلا داخل (التلفظ )"
(20).
إن الخطاب في مفهوم باختين يعيد مسألة خطاب الآخر ويتجسد في
الخطابات اللسانية (خطاب مباشر، خطاب غير مباشر ، خطاب غير مباشر حر) ، لهذا
يراهن على المنهج الاجتماعي في اللسانيات ، وضرورة تفسير واقعة خطاب الغير
تفسيرا سوسيولسانيا ويعرف الخطاب المروي بأنه "خطاب في الخطاب ، وكفظ في
التلفظ ، .. لكنه في الوقت ذاته خطاب عن الخطاب وتلفظ عن التلفظ "(21). كما
أنه يتمتع باستقلاله البنيوي والدلالي .
علاقة الخطاب بالحوارية
إن مصطلح الحوارية الذي استثمرته _ فيما بعد - جوليا كريستيفا وشاع
في أدبيات الخطاب النقدي الجديد وعرف بالقناص Intertextuelle يشير الى اقتحام اللسانيات للمجالات
التي كانت تعتقد أنها ليست موضوعا لبحثها،"فالوحدة القاعدية الحقيقية للسان
- الكلام ليست هي التلفظ - الحوار الداخلي الوحيد والمعزول ، كما هو معروف ،
ولكنها تفاعل تلفظين على الأقل أي الحوار"(22). ويثير باختين أسئلة جوهرية
في مسألة علاقة الخطاب بالحوارية .
"كيف ندرك ، في الواقع خطاب الغير؟ كيف تحس الذات المتلقية ،
في وعيها بتلفظ الغير، هذا الوعي الذي يعبر بواسطة الخطاب الداخلي ؟ كيف يستوعب
الوعي الخطاب بفعالية ، وما هو التأثير الذي يمارسه الخطاب على توجيه الكلام
الذي يكفظ به المتلقي من بعد ؟ "(23) لقد طورت هذه المفاهيم تحليل
الخطاب الروائي ووثقت الصلة بين ´ اللسانيات والتحليل السوسيولوجي. ونجد تحديدا
لأنماط الحوارية في الرواية لدى باختين وتتصل في التهجين والعلاقة
المتداخلة ذات الطابع الحواري بين اللفات والحوارات الخالصة .
إن مفهوم الحوارية معرفه تدورون T.Todorov بقوله "كل علاقة بن ملفوظين
تعثبر ثناصا.. فكل نثاجين شفويين ، أو كل ملفوظين محاور أحدهما الأخر، يدخلان في
نوع خاص من العلاقات الدلاليه نسميها علاقات حوارية"(24).
وانطلاقا من هذا التصور وجه باختين نقدا للاسلوبية ، وقدم قراءة
لتاريخ الأساليب من منطلق سوسيولوجي.
1 - الوثوقية السلطوية (العصور الوسطى) وتتميز بالأسلوب الفخم
السطري وغير مسند الى شخص في بث خطاب الغير.
2- الوثوقية العقلانية (القرنان 17 و18) وتتميز بالأسلوب السطري
الأدق والأرق والأوضح .
3- النزعة الفردية الواقعية والنقدية (نهاية القرن 18والقرن19)
وتتميز بأسلوب مجازي منسق والميل الى تسريب الخطاب المروي من خلال أجوبة
وتعليقات المؤلف .
4 - النزعة الفردية النسبوية (المرحلة المعاصرة )وتتميز بإذابتها
للسياق السردي.
وخصص في كتابه "الماركسية وفلسفة اللغة " الفصلين
الأخيرين للخطاب غير المباشر والخطاب المباشر ومتغيراتهما ، والخطاب غير المباشر
الحر في الفرنسية والألمانية والروسية وهي دراسة مقارنة . لقد كان ميخائيل
باختين نموذجا لما ينبغي أن يسلكه اللساني لكي يتخلص من الجمود والعزلة . ولقد
وجدت السيميائيات المعاصرة في مفاهيمه حول تحليل الخطاب والحوارية ما جعلها تحقق
تقدما نوعيا في تحديد مسار الأبنية الجديدة لعلم مازالت تتنازعه عدة حقول معرفية
.
بعد ان تستعرض جوليا كريستيفا مفاهيم الخطاب لدى اللسانيين التي
سبقت الاشارة اليها تخلص الى أن الخطاب "يدل على كل كفظ يحتوي داخل بنياته
الباث والمتلقي مع رغبة الأول في التأثير على الأخر"(25). وتقدم في مؤلفها
(النص المغلق ) أيضا تعريفا للنص على أنه جهاز فوق لساني يعيد توزيع نظام اللغة
، كما أنه يتحدد عن طريق تبادل النصوص أي القناص ، داخل فضاء النص هناك عدة
ملفوظات مأخوذة من نصوص أخرى تكون متقاطعة ومحايدة . إن مفهوم الخطاب وعلاقته
بالنص والقناص يعد امتدادا لمفاهيم باختين .
التحليل السيميائي للخطاب
إن التحليل السيميائي هو ذاته تحليل للخطاب ، وهو يميز بين
"السيميوتيقا النصية " وبين اللسانيات البنيوية "الجملية 0. ذلك
أن هذه الأخيرة حين تهتم بالجملة تركيبا وانتاجا _ وهو ما يسمى بالقدرة الجملية
_ فإن السيميوتيقا تهتم ببناء نظام لانتاج الأقوال والنصوص . وهو ما يسمى
بالقدرة الخطابية . ولذلك ، فمن المناسب الآن وضع القواعد والقوانين التي تتحكم
في بناء هذه الأقوال وتلك النصوص "(26).
إن التحليل السيميائي للخطاب ينطلق مما انتهت اليه جهود اللسانيين
حول النظرية العامة للغة ، وبمسائل التصورات التي أحيطت بالخطاب ويقتضي أن يكون
متجانسا مع الثنائيات الأساسية : (اللغة / الكلام ) _ (النسق /العملية )( process) _ (الكفاية /الأداء الكلامي)، كما أنه لا يغفل العلاقة التي
تربطه بمقوله التلفظ . فالمعجم السيميائي لجريماس وكور تيس وهو يناقش مصطلح
الكفاية من وجهة نظر تشومسكي ينظر اليها على أنها مجموعة من الشروط الضرورية في
عملية التلفظ ، كما أنه يتوافر على صورتين مستقلتين لهذه الكفاية :
أولا : كفاية السرد السيميائي
ثانيا : الكفاية القابلة للوصف أو التعبير بالكلام .
بالنسبة لكفاية السرد السيميائي حسب منظور يامسليف وتشو مسكي يمكن
تصورها على أنها تمفصلات تصنيفية وتركيبية - في الآن ذاته - وليس بوصفها
استبدالا بسيطا على منوال دي سوسير للغة فالتحليل السيميائي ينظر لهذه الأشكال
السر دية نظرة كونية مستقلة عن كل مجموعة لسانية وغير لسانية لأنها مرتبطة
بالعبقرية الانسانية . وهنا ينبغي الاشارة الى فضل مدرسة الشكلانيين الروس وعلى
وجه الخصوص مؤلف "مورفولوجية الحكاية الخرافية" وتأثيره في المدرسة
الفرنسية ذات التوجه البنيوي (كلود بريمون : منطق الحكاية ، جريماس : البنيوية
الدلالية ، وكلود ليفي ستروس : البنيوية الانثروبولوجية ). ولا يستطيع أن ينكر
أي باحث بأن عبقرية بروب وبحوثه العلمية كانت تمهيدا لظهور التركيب السردي
وقواعده .
أما فيما يخص الكفاية القابلة للوصف ، فبدلا من أن تقام على ساقلة
النهر، فإنها تتأسس وفق عملية التلفظ مسجلين صياغة الأشكال الملفوظة القابلة
للتعبير عنها بالكلام ، ويرى مؤلفا المعجم السيميائي بأن الحديث عن الطبيعة
المزدوجة للكفاية تعد ضرورة لانجاز تصور جديد ومضبوط للخطاب .
وفي كل الأحوال فإن الخطاب يطرح مسألة علاقته بالتلفظ وبالتواصل .
ولكن المجال السيميائي يهتم بأطره المرجعية مثل الايحاء الاجتماعي ونسبته للسياق
الثقافي المعطى المستقل داخل تحليله التركيبي أو الدلالي . إن نمطية الخطابات
القابلة للتشكل داخل هذا المنظور ستكون إيمائية خالصة ، ومهما كانت التعريفات
الايمائية للخطاب مجردة فإن مشكلة معرفة ماهية الخطاب تبقى مطروحة ، وحتى عندما
يحدد الخطاب الأدبي بأدبيته(Litterarite ) كما نادى بها
الشكلانيون الروس . فالأدب في تصورهم : "نظام من العلامات Signes دليل مماثل للنظم الدلالية الأخرى، شأن اللغة الطبيعية
والفنون والميثولوجيا.. الخ . ومن جهة أخرى، وهذا ما يميزه عن بقية الفنون ،
فإنه يبني بمساعدة بنية أي لغة ، إنه ، إذن ، نظام دلالي في الدرجة الشانية ،
وبعبارة أخرى إنه نظام تعبيري خلاق Comrotatif وفي نفس الوقت ، فإن
اللفة تستخدم كمادة لتكوين وحدات النظام الأدبي، والتي تنتمي إذن ، حسب الاصطلاح
اليامسليفى(Hjelmslsvime) الى صعيد التعبير، لا تفقد الالتها الخاصه
، مضمونها "(28).
إن الشكلانية الروسية حددت المعطيات الخاصة التي يمكن أن نسمي بها
خطابا ما أنه أدبي. إن رومان جاكبسون هو الذي أعطى لهذه الفكرة صيغتها النهائية
حين قال "إن موضوع العلم الأدبي ليس هو الأدب ، وانما "الأدبية "
Litteraritأي ما
يجعل من عمل ما عملا أدبيا"(29).
لقد عرفت سيميائيات التواصل تقدما فعليا في مجال تحليل الرسالة ،
وذلك بتحديد وظائفها الست . على الرغم من الاهمال الواضح لموضوع "الدلالة
" ، الذي وجد حرصا كبيرا لدى رولان بارت في إبرازها ضمن توجهات سيميائيات
الدلالة ، إن وصف اللغة بأنها نظام للتواصل يتضمن قدرا كبيرا من الانسجام سمح
للدراسة اللسانية بالاهتمام بالنموذج الذي رسمه جاكبسون : "الباث _الرسالة
_المتلقي _ سنن الرسالة - مرجعيتها). ذلك لأنه مكنها من تجاوز التطبيق اللساني
المحصور عل جملة محدودة من الخصائص التي تشتمل على الظاهرة اللغوية الى القراءة
اللسانية للنصوص ومظاهر التعبير الأخرى. واذا كان جاكبسون حصر الخطاب بين مرسل
ومرسل اليه إلا أن لوتمان أشار الى نموذج آخر من التلقي لا يكون بين الباث
والمتلقي، وانما هناك خطاب يتجل فيه الحوار الداخلي مثلما هو الشأن بالنسبة الى
السيرة الذاتية فيكون بين الباث وذاته .. وهذا ما نلحظه في خطاب طه حسين في
مذكراته "الأيام ".
إن علم الدلالة وهو يصنف أنواعها الى طبيعية وعقلية ووضعية لم تفته
الاشارة الى مجالات الاتصال سواء أكانت صوتية أم سيميائية ، ويكون إسهام العرب
جليا في هذا الميدان ولاسيما في احتكاكهم بالفلسفة اليونانية منها المشائية
والميغارية - الرواتية . ويذهب عادل فاخوري الى الدرس المقارن بين علم الدلالة
عند العرب والسيميائيات الحديثة . ويعطي مثلا مقارنا بين تقسيمات علم الدلالة
وتصنيف بيرس الأمريكي للعلامة(30).
يمتد طموح الدرس السيميائي بوصفه علما يقارب الانساق الهلامية الى
تخليص حقول المعرفة الانسانية من القيود الميتافيزيقية التي تكبلها، وتعوق
أبحاثها من الوصول الى نتائج تجعل منها علوما ذات سلطان لها مكانتها المرموقة في
وسط المعرفة الانسانية المعا هوة . وتمكنها من القراءة العلمية الدقيقة لكثير من
الاشكاليات المطروحة ، والظواهر الانسانية التي لم تتعد إطار التأمل العابر،
والتفسير الأفقي الساذج . ولكي يكتسب الدرس السيميائي مشروعية العلم القادر على
فحص البنى العميقة للمادة التي يتناولها، ويقترب من عمقها والقوانين التي
تركبها، كان لزاما عليه كأي علم أن يحدد منطلقاته المنهجية ومرتكزاته النظرية
ويؤسس مقولاته ويمتحن أدواته الاجرائية ويستكشف الحدود التي تفصل بينه وبين
العلوم الأخرى، أو التي تقربه منها.
يبدو أن التواصل البشري أعقد من أي تواصل آخر ، لأن استعمال
العلامة في هذا المجال لا تتم كما قال فريدينا ند دي سوسير إلا داخل الحياة
الاجتماعية ، لهذا يشترط التعاون قصد إيصال الرسالة الى المتلقي ولن يتحقق ذلك
أيضا إلا بالتواضع المتبادل والتوافق حتى يتسنى لأي حوار يقوم بين الباث
والمتلقي تقديم أفكار في شكل شيفرات متواضع عليها. لهذا فإن بعض علماء الدلالة
انتهوا الى أن "عملية الاتصال لا تظهر بوضوح في العالم الحيواني، إلا عندما
يكون هناك تعاون أو نشاط اجتماعي، إن أي اتصال مرتبط في أساسه بالتعاون ... وأن
كل حوار اجتماعي مرتبط بالتعاون "(31).
إن التحليل السيميائي للنسق الاجتماعي يهدف الى استكشاف نظام
العلاقات داخل المجتمع وعلى الخصوص علاقات الأفراد وحاجاتهم لهذا نلقى أن
الأنظمة التي سادت في المجتمع البشري لها من العلامات والأنظمة الرمزية الثقافية
، ما تمكن للسيميائي من تحديد شريحة أو فئة أو طبقة اجتماعية ، ففي التنظيم
العشائري نرى طقوسا وعادات تتجل في جملة من العلامات والرموز ما تتميز به عن
نظام اجتماعي آخر في طر اثق الحفلات والأعراس والمأتم والأعياد وغير ذلك من
المظاهر الثقافية .
إذا كنا قد أشرنا سابقا الى طبيعة التواصل باشكاله المتعددة فإن
هناك شيفرات لكل شكل من هذه الأشكال التواصلية ، فالتواصل الحيواني له علامات
خاصة به منها ما استكشفه البحث ومنها ما بقي مجهولا، وكذلك الشأن بالنسبة
للشيفرات الطبيعية التي تحدد علامات الطبيعة أو إشاراتها، فيتمكن من تلقي
رسالتها ، سواء عن طريق الادراك الحسي أو العقلي .
فإذا كان الطقس باردا فوق العادة في منطقة يمتاز مناخها بالاعتدال
يدرك الانسان أن مصدر قسوة البرد آتية من سقوط الثلج . أو العكس بالنسبة لاشتداد
الحرارة غير العادية والتي تفوق معدلها الفصلي فيدرك بأن مصدرها قد يعود الى
وجود حريق . وهذا كله ينتج من وجود علائق قد تكون معقدة بين الشيفرات الطبيعية
والتكوين البيولوجي، والحساسية الفسيولوجية للانسان . ومهما يكن من أمر تبقى-
كما أكدنا آنفا - الشيفرات الاجتماعية ، أكثر تعقيدا، وتتطلب جهدا عمليا، وذكاء
فطنا لفهم العلامات الاجتماعية ومحاولة تفسيرها، وفهمها فهما عميقا، فالعلامة
كما يعرفها أو لمان هي " نتاج اجتماعي واع يتكون من دال ومدلول يمثلان بوجه
عام شيئا أومفهوما غير العلامة - ذاتها"(32).
إن التحليل السيميولوجي يمتد ليشمل جميع الأنظمة السيميوطيقية سواء
تمثلة في العلوم الطبيعية أم الاجتماعية أم الثقافية إن هذا العلم كما تنبأ به
دي سوسير وتصوره تشارلز سندرس بيرس يطمح الى أن يكون علما لجميع أنساق العلامات
لغوية كانت أو غير لغوية ، وما زال المشروع السيميائي يبحث عن معالم تحدد أطره
المرجعية ، وموضوعاته وممارساته الاجرائية وعلاقاته بالعلوم الأخرى لرسم منهجه ،
وتوضيح مقولاته بدقة . وهو ما حدا بر ولان بارت في كتاباته (ميثولوجيات
وامبراطورية العلامات عناصر السيميولوجية ) الى إثارة هذه القضايا التي تتعلق
بنضج هذا المشروع ، فيقون إن "السيميولوجيا ما تزال بحاجة الى تصميم ونعتقد
أنه لا يمكن أن يوجد أي كتاب وجيز لمنهج التحليل هذا، وذلك على الأكثر بسبب سمته
المتسعة (لأن السيميولوجيا ستكون علم كل أنساق العلامات ). وان السيميولوجيا لن
تعالج مباشرة إلا عندما تصمم هذه الأنساق على نحو تجريبي" . وأمام هذا
التراكم السيميائي وما أحدثه من ثورة حقيقية في مناهج العلوم بعامة والانسانية
بخاصة ، يجد الباحث تنوعا في الطرح وتباينا في التصور، وتعددا في الممارسة
التطبيقية ، تلتبس فيها السيميائيات - في بعض الحالات ~ بالنظرية التأويلية ،
ولكن علم العلامات لم يعد حديثا الا بتحديد معالمه وبناء مقولاته ، وتبيان
أدبياته ، واختبار نظرياته وأدواته الاجرائية . والا فإننا نصادف في تاريخ
التفكير الفلسفي على كثير من تصوراته عند الشعوب القديمة التي أسهمت في بناء
الحضارة الانسانية كالفراعنة والبابليين والا غريق والعرب والمسلمين والرومان ..
الخ ، إن ميلاد هذا العلم اقترن بثورة التفكير اللساني المعاصر نتيجة ارتباطه
الوثيق بالمنجزات والاستكشافات التي حققها العلم الحديث .
الهوامش
1-ماريو باي : أسس علم اللغة _ ترجمة : أحمد مختار عمر _ ص 112
2-المرجع السابق : 113.
3- ابن جني : الخصائص : 1/18
4- ابن هشآم : مغني اللبيب - ص 490.
5- ينظر : تمام حسان اللغة العربية معناها ومبناها _ ص 189 ، 204
6- الزمخشري : المفصل _ ص 6.
7- الرضي : شرح الرضي على الكافية _ ص 52.
8- رولان بارت : التحليل البنيوي للسرد _ ترجمة : مجموعة من
المؤلفين _ مجلة آفاق المغربية _ ع : 8, 9_ 1988_ ص 9.
9- المرجع السابق : 9.
0 ا - نفسه : 9
11 - دي سوسير : دروس في الألسنية العامة _ ترجمة : مجموعة من
المؤلفين التونسيين . ص : 29.
12 – حنون مبارك : مدخل للسانيات سوسير _ ص : 36.
13 - ينظر يوسف الطعاني : اللغة كأيديولوجية _ مجلة الفكر العربي
المعاصر لبنان _ ص : 75.
14- Hymsler , Prolerrnines
a ume therie du - langage ed.
Minuit -Paris pp. 9.
15- Hymsier: esrais
linginstigues- ed: Minuit –
Paris
pp. 29.
16- Andre Mastinet : elements de lin guistique -
generate ed Almand Qlin pp:109.
17- Jean Dubois e1 outs : Dictionnanes de - linguistique - ed: larousx pp. 158.
18- ريمون طحان ودنيز بيطار طحان: فنون التعقيد وعلوم الألسنة –
لبنان- ص 292.
19- Jean Aulois autres: Aictionsire de linguistique -pp.158.
20- ميخائيل باختين: الماركسية وفلسفة اللغة- ترجمة: محمد البكري
ريمني العيد- ص 150.
21- المرجع السابق :155.
22- نفسه:157.
23- نفسه: 157.
24- T. Trdorov Mileal , le principe dialogigue - pp.
95-95.
25- Julia
Vristera ) Le Langage cet inconnue - ed Scuit-Paris-pp.: 198.
26- جماعة انتروفيرن: التحليل السيميوطيقي للنصوص – ترجمة: محمد
السرغيني – مجلة دراسات أدبية ولسانية- ع2 –1986 – ص 26.
27- Greiruas
et constes: senuiotiique - Dictionnaine- laisonne de la theorie du langage ed
- Hachelte -Paris- 1979-pp. 103.
28- تزيفطان تودروف وآخرون: في أصول الخطاب النقدي الجديد – ترجمة:
أحمد المديني – ص 13.
29- بوريس إيخنباوم وخرون: نظرية المنهج الشكلي- ترجمة: ابراهيم
الخطيب – ص 36.
30- ينظر: عادل فاخوري: علم الدلالة عند العرب دراسة مقارنة مع
السيمياء الحديثة – ص 29.
31- Adam Senaf:
Introduction a la semamtique - Paris ed : Hutropos 1974 - pp:
194.
32- Voti – S. UiSman :
Precis de semantique - Fhamcaise - ed Framcke 1975.
|
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق