========================
■ مفهوم علم اللسان( اللسانيات):
========================
تُعرَّف اللسانيات على أنها: " الدراسة العلمية للسان البشري"[19].
إذا تأملنا هذا التعريف وجدناه يقوم على ركنين ، هما:
-العلمية و -اللسان البشري .
ولذلك علينا أن نشرح هذين المفهومين الذين منها نفهم تعريف اللسانيات.
1-العلمية: ماذا نقصد بالدراسة العلمية؟ وكيف تكون الدراسة علمية؟
لقد تطور مفهوم العلم في نظرية المعرفة الحديثة أو الإبيستيمولوجيا ، ويَعنُون بالعلم–من خلالها-: كل ما هو كلي ، موضوعي ، و معلل .
أ-الكلي:
-بالنسبة للظواهر الطبيعية:
نقصد به الظواهر التي تطرد وتستمر-والاطراد والاستمرار مصطلحات عربية أصيلة- في الزمان والمكان (بدون تخلف).
-أما بالنسبة للموضوعات الرياضية: فهو الموضوع وصفا عاما غير معين ولا خاص ، بشيء من الأشياء ، ليمكن من إجراء العمليات الجبرية والمنطقية الصورية عليه، (وذلك مثل المتغيرات الرياضية ).
-فالحاصل:
أن المعرفة العلمية –بوصفها نظاما كليا-هي قبل كل شيء ؛ معرفة عامة ، لا تتعلق بأعيان الأشياء ، بل تتجاوزها إلى القدر المشترك الموجود في كل منها، أي الأوصاف المستمرة التي يسميها المسلمون "أصولا".
ونخرج من هذا الحاصل بنتيجة وقاعدة:
-النتيجة:
كل مفاهيم العلم مبنية على هذا الأساس (الكلية) ؛ سواء كانت مشاهدة ، أم استنباطا ، أو استنتاجا ، أم قانونا أم مبدأ.
-القاعدة:
كلما ارتفعت المعرفة ، في درجات العموم والاطراد ، كانت أفيد وأعرب لكل حقيقة.
ب/-الموضوعية:
هي الوصف الثاني الذي تعارف الناس عليه في هذه المعرفة ، ويعني بها العلماء المحدثون:
الصفة التي تَكونُ عليها معلومات الشخص ، عند مطابقتها التامة للواقع الخارجي ، ويسمى هذا الخارج موضوعا.
والخطر كل الخطر الذي يتهدد المعرفة العلمية الصحيحة، ناتج عن نشاط الذوات، إذ ربما لا تميز بين ما هو راجع لها ، أي إلى نشاطها الذاتي الخاص بها ، وبين ما هو راجع إلى موضوع نشاطها في نفسه أي الأعيان في أنفسها.
وإذا أردنا أن نصل إلى المعرفة العلمية عندما نتعامل مع " الموضوع" فعلينا أن نقوم بعمليتين ، هما المنبع الرئيسي للعلم : الحس والنظر.
فالحس،هو تصفح الأمور وتتبعها-كما يقول أسلافنا-، أي مشاهدة الظواهر و عيانها.
والنظر،هو إجراء العمليات العقلية على محصول المعاينة ، أي على المعطيات التي تثبت وجودها( في عملية الحس).
-نتيجة:
فالمعرفة العلمية، إذن نتيجة لسسلسلة من العمليات التحويرية والتنظيمية ، يقيمها العقل على مادة الحواس.[20]
وهذا ما يعنيه العرب بالنسبة للمعرفة النحوية ، فقد قالوا : "إن النحو معقول من منقول"[21]
وتبعا لهذين العمليتين ، تنازع البحث اللساني المعاصر نزعتان:
-الأولى-حسية نقلية، تعتمد على المشاهدة والاستقراء لمعاينة الأحداث وتصنيفها لاستنباط القوانين ، ويمثلها الطرق الاستنباطية ، التي تستعملها العلوم الطبيعية ،وقد تجلى ذلك في المدارس البنوية التصنيفية الكلاسيكية، التي اشتقت من توجهات سوسير.
-الثانية-عقلية، تعتمد على الفرضيات الاستنتاجية ، التي تنطلق من مسلمة ثم تُولِّد عنها مجموعة من القواعد ، التي تستنتجها بفعل عمليات معينة ، تختبر بها مسلماتها فترفض الفاسد أو تستبدله ، وتقبل الصحيح وتتمسك به، ويمثله المذهب النحوي التوليدي التحولي الأمريكي ، الذي كان ثورة على المذاهب البنوية الأخرى.[22]
جـ/-التعليل:
هو المميز الثالث من مميزات المعرفة العلمية ، ويعتمد على مفهوم اللزوم ، وهو أهم عنصر يدخل في تركيب القوانين العامة ، فأن يلزم شيء شيئا آخر؛ بعد أن يثبت لنا بالاستقراء ( أي المشاهدات الكثيرة والتصفح الواسع) ، أن الحادث (أ) ، يتلوه في الوجود الحادث (ب) ، ونكون بذلك قد استنبطنا قانونا طبيعيا عاما ، يوضحه:
في أحوال معينة
القانون العلمي= ظاهرة (أ) ظاهرة (ب)
باللزوم
ويشرحه:
القانون العلمي هو كل صيغة (سواء كانت قولا أو رموزا رياضية)، تثبت وجود علاقة بين حادثتين (أ) و (ب) ، تبنى هذه العلاقة على اللزوم و الوجوب و تُعَيِّن الأحوال التي تثبت فيها العلاقة اللازمة.
فالعلم لا يبلغ غايته ولا تتحقق أهدافه إلا إذا انتقل من ملاحظة الأشياء (الموضوع) ، إلى ملاحظة العلاقات والنسب القائمة بينها ، وأهم غرض يعقده الباحث على موضوع بحثه هو اكتشاف هذه العلاقات.[23]
2-اللسان البشري:
وهو موضوع الدراسة اللسانية ، وهذا اللفظ اصطلاحي ، لا نعني به اللفظ المتداول بيننا ، فاللسانيات تعمل من خلال إجراءاتها على إعطاء مفهوم لهذا "اللسان" . والذي يهمها ليس صفاته الذاتية بل صفاته الموضوعية التي ترتبط بموضوع أبحاثها ، أو ما ندعوه المظاهر اللسانية.
هذا وقد عرفه مارتيني،بما يلي:
"إن اللسان هو أداة تبليغ، يحصل على مقياسها تحليل ما يخبره الإنسان ، على خلاف بين جماعة وأخرى ، وينتهي هذا التحليل إلى وحدات ذات مضمون معنوي وصوت ملفوظ ، وهي العناصر الدالة على معنى (مونيم)،
ويتقطع هذا الصوت الملفوظ إلى وحدات مميزة ومتعاقبة ، هي العناصر الصوتية ( الوظيفة ) أو الفونيم ، ويكون عددها محصورا في كل لسان ، وتختلف هي أيضا من حيث ماهيتها والنسب القائمة بينهما باختلاف الألسنة."[24]
إن هذا التعريف للسان البشري ، كما تريده اللسانيات الحديثة ، المبنية كما أسلفنا ، على العلمية ، قد تطور بتطور البحث اللساني ، وسنشرح هذا التعريف عند حديثنا عن الخصائص العلمية لهذا اللسان.
ثانيا-خصائص اللسان البشري:
كشف سوسير من خلال دروسه عن حقائق لسانية ، تعتبر مبادئ بلورت مفاهيم الدراسات اللسانية ومناهجها ، وغيرت بعض الأسس، رأى أنه ينبغي معالجة الظواهر اللسانية بها ، وبعضها الآخر متعلق بخصائص اللسان البشري ، لكننا قبل أن نخوض في هذه الخصائص ، علينا أن نمهد للموضوع بالحديث عن الأنظمة الدلالية وعلاقتها باللسان، ليتضح مقامه بينها:
تمهيد-اللسان البشري والأنظمة الدلالية:
إن النظم الدلالية كثيرة ومتنوعة ، والأدلة بدورها في المجتمع كثيرة ومتعددة ، والعلم الذي يبحث في كل النظم الدلالية الأخرى غير اللغوية، هو علم الأدلة أو السيمياء ، التي بَشَّر بها سوسير كعلم ينضوي تحته علم اللسانيات ، فتَدرس الأولى الأدلة اللغوية وغير اللغوية ، بينما تختص اللسانيات بدراسة الأدلة اللغوية فقط.
وسنميز هنا بين أنواع الأدلة من خلال نوعين من الأنظمة الدلالية:
1-الأدلة التي لا تتوفر فيها نية التبليغ: ويدخل تحتها
المؤشر أو الإشارة:
مثل دلالة السحاب على المطر، أو الدخان على النار، أو الرائحة الزكية على الورد ، ...
2-الأدلة التي تتوفر فيها نية تبليغية:
الدليل: الذي يبين لنا أن العنصر (أ) يدل على العنصر(ب).
العلامة:
وهي دليل يتضمن نية مقصودة وهي نية التبليغ ، ويندرج في نظام دلالي خاص ، كدلالة الراية الحمراء على الخطر ، والتي تؤدي غرضا إعلاميا وإخباريا اصطلح الناس عليه واستعملوه.
الرمز:
هو الدليل الذي تربط بين عنصريه (أ) و(ب) علاقة واضحة.
كارتباط الميزان بمفهوم العدالة ( الوزن بين الحق والباطل وإقامة العدل بين الناس).ورموز قانون المرور المرتبطة في شكلها أو صورتها واختيارها بما تدل عليه ، فلم يكن الاختيار فيه عشوائيا أو اعتباطيا ، بل وفق ما يحمله الشيء أو الشكل أو الصورة من معنى يوحي بالمفهوم الذي نريد أن نعبر عنه.
بعد أن تعرفنا على الأنظمة الدلالية ، وعلمنا أن اللسان يدخل في هذه المنظومة ، غير أنه يتميز بمجموعة من الخصائص ، هي:
1-اللسان ظاهرة منطوقة أصلا؛
وأُولى ظواهره صوتية ، وعليه تكون الأولوية في الدراسات اللسانية عنده للمظهر الصوتي على المكتوب ، فلم يعد الحرف (الرسم المكتوب للصوت) حدثا علميا ، خلافا للنحو المعياري ، المعتمد على قواعد الإملاء.
2-اللسان نظام من العلامات ؛
جوهره صوري غير مادي ، فهو مجموعة من النسب والعلاقات الصورية التي تندرج فيها الوحدات اللسانية على مختلف مستوياتها من أصغرها أي الصوت إلى الجمل . وهذه الوحدات لا تكتسب هويتها داخل النظام إلا عند مقابلتها بغيرها في مستواها، وهذا التقابل هو الذي يحدد قيمة الوحدات ، مثل قيمة العملة عندما تقابل بكمية الذهب ، في حين أن جانبها الورقي المقابل للخشب مثلا لا قيمة تذكر له.
أما الجانب المادي منه (الصوتي الفيزيولوجي) فخارج عن ذات اللسان . ويقول سوسير في هذا الشأن : " إن اللسان نظام ترتبط جميع أجزائه ببعضها البعض على أساس اتحاد الهويات واختلافها".[25]
واللسان قد يفارق غيره من الدوال في أنه صوت ملفوظ ، فإن بعض الدوال قد تكون مادتها غير صوتية ( أنوار أو مادة صلبة أو حركات) ، أو تكون أصوات لكنها غير ملفوظة ، أي غير حادثة في المخارج و الأحياز الصوتية الإنسانية ، فهذه ميزة اللغة عن غيرها ، لكن هذا الجانب الصوتي الفيزيولوجي من اللسان لا يجعنا نقول إنه أهم شيء في اللغة، لأن ميزة اللسان الذاتية لا يمكن أن تنحصر في مادتها ، بل في صورتها كما رأينا.[26]
يقول ابن جني-في الخصائص-(1/44):" لكل واحد منها لفظ إذا ذكر عرف مسماه ليمتاز عن غيره، ويغني ذكره عن إحضاره إلى مرآة العين، فيكون ذلك أقرب وأخف وأسهل من تكلف إحضاره."،
فهو إذن اللفظ الذي يبينه الإنسان من تصوره للشيء مشخصا كان أو مجردا.[27]
فهو إذن-مثله مثل كل الأنظمة الدلالية- مُكون من مادة هي قوامها ومحلها، ونسميها الدال ، ومن مضمون يحل هذا المحل وهو المدلول .[28]
-ملاحظات:
-اعتبار سوسير اللسان نظاما(بنية كما قال من جاء بعده)ليؤدي الوظيفة التي وضع من أجلها وهي التبليغ ، والتي هي وظيفته الرئيسية.
-هدف اللساني هو الكشف عن أسرار النظام.
-لم يستعمل سوسير مصطلح البنية إلا ثلاث مرات ، واستعمل في المقابل "النظام" 138 مرة.
-أصبح مفهوم البنية محوريا ، بل أصبحت العلوم الإنسانية و الاجتماعية كلها تستعمله في تحليلاتها ، فصار المستحوذ على هذه المجالات من المعرفة لفترة من الزمن، ليست هينة.
-نتيجة:
-موضوع اللسانيات عند سوسير إذن هو النظام أو: الهيكل التقديري الذي طبع في الذهن الإنسان ، وهو-عنده-رصيد مستودع في أدمغة المتكلمين ، بل أفراد المجموعة كلها يستثمرونه عند الحاجة ، أي عند التكلم ، فالإنسان يولد وهو يملك القدرة على الكلام ، ثم يكتسب طبعًا وصنعةً الآليات التي تتحكم في العملية.
لأن عملية التكلم تتمثل في الظواهر المادية (فيزيولوجية وفيزيائية)، والعوامل غير اللغوية التي تؤثر فيها ، فلا يراها جديرة بالاهتمام ، لأنها عارضة متحولة كلامية.
3-اللسان أداة تبليغ:
من خلال تعريف أدريه مارتيني للسان البشري ، سنتعرف على المميزات الملازمة لمفهومه ، أي تلك التي لا تفارقه أبدا.
ونقصد بـ"أداة": الوظيفة، الذي تقتضيه كلمة أداة .
ونقصد بتبليغ: التخاطب االمتبادل بين أفراد الجماعة ، وهو تبادل معلومات وأغراض بكيفية خاصة.
وهذان العنصران تتفق فيهما اللغة وغيرها من الظواهر الأدائية التبليغية ، ونعني بالأداء وجود جهاز خاص يستعمل لتحقيق غاية معينة، وهذا هو التبليغ.
ويقتضي وجود التخاطب(communication) شيئين هما:
-الأول: أنه لا يتم إلا بواسطة نظام من الأدلة أو العلامات، وهذا هو الجهاز الذي أشرنا إليه وهو ليس خاصا باللغة ، لأن كل الأنظمة الدلالية كثيرة ، كما سبق ذكره أعلاه.
-الثاني: أنه مواضعة واصطلاح(code) ، يتواضع عليه الناطقون به ، وكل هذه الأشياء إنما هي نظم اجتماعية من نوع خاص، ويمكن أن يظهر ترابطها من الأعم إلى الأخص بهذه الكيفية:
النظم
الاجتماعية
العامة الموجودة
ï
الوسائل الأدائية أو الوظيفية
ï
الأجهزة الاصطلاحية والمواضعات
ï
نظم الأدلة التبليغية
ï
الألسنة البشرية
4-اللسان اعتباطي العلامات المشكلة لنظامه؛
لأنه من الأدلة الوضعية ، فالعلامة التي تربط الدال بالمدلول وضعية ، أي أنها غير طبيعية أو غير حتمية ، فلا يوجد في سسلسلة الأصوات التي تمثل الدال ما يدل على المدلول ، وإنما تم ذلك بالتواطؤ والاصطلاح ، عكس ما رأيناه في المؤشرات والرموز.
يقول عبد القاهر الجرجاني في دلائل الإعجاز(42) :" فلو أن واضع اللغة كان قد قال(ربض) مكان (ضرب) لما كان في ذلك ما يؤدي إلى فساد."[29]
فلو كان في اللفظ ما يدل على معناه ، أو في المعنى ما يقتضي أن يعبر عنه بلفظ معين ، لما اختلفت اللغات ، ولكانت كل كلها لغة واحدة لأن الدوال ستكون نفسها.[30]
5-اللسان يتسلسل في ظهوره بتسلسل الزمن،
فله بعد واحد يتحرك به في أثناء إحداثه، وهو خط أفقي نسميه في الاصطلاح مدرج الكلام .[31]
ويترتب على هذا أن للُّغة بعدا واحدا، وهي صفة تخالف فيها بعض الدوال التي لها بعدان أو ثلاثة أبعاد ، فإن الصوت لا يحصل إلا متتابعا متسلسلا ، تتعاقب فيه عناصره الحرفية الواحد بعدَ الآخر ، وهذا أمر خطير جدا لأنه يِؤثر في نظام اللسان أي تأثير. هذا طبعا في نظر البنويين مثل مارتيني.[32]
6-اللسان قابل للتقطيع ؛ إلى مستويين من التحليل ، وهما:
أ-التقطيع الأولي: هو الذي يقع على مدرج الكلام، وينتهي إلى العناصر الدالة على المعاني الإفرادية، وهي الكلم وليست الكلمة ، لأن الكلمة عند سيبويه وبعض من تابعه في ذلك مثل الرضي الاستراباذي ، الذي يقول في (شرح الكافية:1/5): "هي أقل ما ينطق به مما يدل على معنى"، وتدخل في مفهومها إذن الحركات الإعرابية .
ب-التقطيع الثانوي: الذي يخص هذه الكلم نفسها ، أي يحدث في مستواها، ويفضي إلى العناصر الصوتية غير الدالة، التي تتركب منها الكلم وهي حروف المباني.[33] وهذه الميزة تنفرد بها اللغة أيضا عن غيرها من الدوال.
وسنتعرف على آليات هذا التقطيع عند حديثنا عن مستويات التحليل اللساني.
7-اللسان ظاهرة إنتاجية؛
هي من أهم خصائص اللسان البشري التي تميز عن لغة الحيوان، ونعني بها أن المتكلمين يستطيعون النطق بتركيبات ، لم يسبق لهم أن سمعوها من قبل ، ويعود هذا-جزئيا-إلى الوضع السابق للغة،و جزئيا إلى استعمال المتكلم.
ولهذا يقول ابن مالك(كما نقله عنه السيوطي (المزهر؛1/43) ):
" إن الدال بـالوضع لا بد من إحصائه ، ومنع الاستئناف فيه، كما كان ذلك في المفردات والمركبات القائمة مقامها ، فلو كان الكلام دالا بالوضع وجب ذلك فيه ، ولم يكن أن نتكلم بكلام لم نسبق إليه ، كما لم نستعمل في المفردات إلا ما سبق استعماله ، وفي ذلك برهان على أن الكلام ليس دالا بالوضع"[34] أي ليس دالا بالوضع فحسب ولكن به وبالاستعمال.
ويقصد ابن مالك ؛ أن المتكلمين غير مقيدين في كلامهم بما قيل سابقا ؛ أي ليس عليهم أن يتقيدوا بما وضعته العرب في المفردات والمركبات الجزئية فقط ، أما الجمل فبإمكانهم أن يقولوا منها ما يشاءون.
هذا ما يعرف في اللسانيات بالإنتاجية، أي إمكان إحداث جمل جديدة لم تنطق من قبل.
وهذا الخصيصة تحضى باهتمام النحاة التحويلين بزعامة تشومسكي؛ بل إنها أهم أسس نظرياتهم على الإطلاق.
وهي السمة الوحيدة التي يمكن استنتاجها من تعريفه للغة، إذ يرى أنها "مجموعة من الجمل غير محدودة العدد ، وكل جملة منها محدودة الطول مصوغة من مجموعة العناصر المحدودة."[35]
8-اللسان ناقل ثقافي؛
ونحن نقصد هنا اللغة المعينة؛التي هي النظام المكتسب المتجانس،
لا اللغة الملكة التي هي المقدرة الفطرية بطبيعتها التي يزود بها كل مولود بشري[36].
فتنقل اللغة المعينة من جيل إلى آخر بالتعلم وليس بالوراثة ، وهذا ما يسمى بالنقل الثقافي ، وهو عنصر مهم في اكتساب اللغة ، لأننا إذا نظرنا في لغة الحيوان ، وجدناها نفسَها باقية كما هي مهما تغيرت الظروف المحيطة ، لأنها –أي لغتها-ردود أفعال غريزية موروثة ، فكل قِط في العالم يستعمل نفس الطرق للتواصل ، أما الإنسان في لغته البشرية ، فإنها تُكتسب من محيطه بغض النظر عن أصله العرقي ، أو الموروثات ، فالفرنسي الذي ينشأ في بيئة عربية سيتكلم العربية ، والعكس صحيح ، ولذلك نجد أن الإنسان الذي نشأ في البيئة العربية ستنقل لغته الثقافة العربية بطريقة طبيعية.[37]
نتيجة:
دعنا نشير هنا ؛ إلى أن اللغة ليست فقط أداة تواصل أو تبليغ، وإن كان هذا من أهم مميزاتها التي تمكننا من تحليلها تحليلا بنويا، ونصل بذلك إلى فك نظامها والتعرف على وحداته اللغوية ، و على التقابلات المختلفة له والعلاقات التي تربطها ببعضها البعض ، وهو ما يسمح لنا بأن نقوم بذلك بعيدا عن الاعتبارات المعيارية ، وأن نتصف بالعلمية والموضوعية المطلوبة ، فنكون قد أكسبنا هذه الوحدات صفة "اللسانية" ، وهو مقصود اللسانيات الحديث بامتياز، وبحث لساني صرف يستهدف اللغة المعينة ، لكن الباحث الاجتماعي أو الأنتروبولوجي، أو الباحث في تعليمية اللغات، أو حتى الدارس المثقف ، عليه أن يعلم أن اللغة أيضا ناقل ثقافي ، ولذلك أضفناه إلى خصائص اللسان ، مع أننا كنا نستطيع إزالته، لأنه ليس من اهتمامات البحث اللساني ، ودعني أقول مع ابن جني-الخصائص(1/33)-في تعريفه للغة :
"أما حدها فأصوات يعبر بها كل قوم عن مراداتهم."
فنجد أنه لاحظ –هنا- في اللغة أربعة جوانب:
الجانب الأول: فيزيائي وفيزيولوجي ، على شكل أصوات تكون في البداية غير لغوية.
الجانب الثاني: تعبيري، وهو بداية تشكل الجانب الإنساني للغة في أبسط صوره ، ممثلا في وحدات لغوية تعاقبية. وهنا يدخل المبحث اللساني الأول وهنا تبدأ الأصوات في اكتساب لسانيتها، لتتراكب في مستويات لسانية.
الجانب الثالث:اجتماعي ، وهي الاختلافات الفارقة بين نظامين لسانيين ، أنتجتهما ظروف قومية مختلفة ، أو كان النظام اللساني واحدا واختلفت تأدياته اللهجية واللغوية.
الجانب الرابع:مراداتي، أو فلنقل أغراضي(نفسي قصدي) ، ويمثل الأهداف المعنوية التي يريد منتج اللغة بلوغها ، في حال تأديته للكلام، آخذا بعين الاعتبار بطريقة طبيعية فطرية اكتسابية ، النظام الذي تنتمي إليه لغته.
إن الجانبين التعبيري والاجتماعي القومي هما اللذان يلفتان انتباهنا إلى النقل الثقافي للغة ، وإن لم يكن من اهتمامات البحث اللساني البنوي، وإن اهتمت به ، فإن ذلك سيكون من باب الكشف عن نظام هذا التمايز الثقافي بين لغة وأخرى ، وإن كان هذا الاتجاه من البحوث غضا طريا.
هذا ونُذَكِّر أن مفهوم اللسان الذي هو موضوع اللسانيات ، قد تطور في الدراسات اللسانية الحديثة ، ما أدى إلى تطور المناهج والإجراءات التحليلية التي تعالجه ، فكان أن توصلت هذه التطورات إلى الكلام عن الخصائص التالية:
9-اللسان نشاط يؤديه المتكلم في مقام معين؛
وهو ما طورته نظرية الحديث وأفعال الكلام ، وكان ذلك تحولا جذريا في البحث اللساني ، أحدثه التوجه إلى العناية بالظواهر الكلامية إذ تغيرت النظرة إلى اللغة ، فلم يَعد يُنظر إليها على أنها نظام من الأدلة مستودع في أدمغة المتكلمين؛نظامٍ تندرج فيه هذه الأدلة ، ضمن علاقات تركيبية معينة ، خاصة بكل لسان بل هو:
-نشاط يتحقق في وضعية خطابية تبادلية ومقيدة بقيود خاصة،[38]
والعيب الذي وقع فيه أصحاب المذهب البنوي ، ليس فقط كونهم حصروا موضوع بحثهم ؛ في اللغة في حد ذاتها-فهذا فضل كبير-؛ بل في أنهم انطلقوا من الكلام الذي تم إخراجه ، أي بعد أن ينتهي منه صاحبه ويصل إلى صماخ السامع ، ولهذا قيل إن البنوية تهتم بالسامع ولا تراعي المتكلم ، ولهذا السبب حاولوا منذ زمان بعيد أن يحلوا ظاهرة الكلام محلها الطبيعي وهو دورة التخاطب. وأظهرت نظرية الحديث ، من الاهتمام المتزايد لعملية التبليغ في ذاتها ، وما تقتضيه من النظر في العناصر التي تقوم بدور أساسي في هذه العملية.[39]
وكانت إرهاصات هذه النظرية مع بيرس(1893م-1914م) الذي عاصر سوسير ، ولكن لم تنشر أعماله إلا في العقد الثالث من القرن العشرين ، وقد دعى إلى تناول الدليل في أبعاده الثلاثة التي هي:
1-البعد الدالي أو التركيبي، الذي يتناول الدليل في نفسه،
2-البعد الدلالي أو الوجودي الذي يربط الدليل بما يدل عليه،
3-البعد التداولي الذي ينظر إلى الدليل من خلال العلاقة التي تربطه بمؤوله. أي المتكلم أو المستعمل.
فلم يعد اللسان بوحداته كيانا خارجا عن ذات الانسان الذي يتكلمه-كما قدمته اللسانيات البنوية- ، بل هو نشاط من صلب نشاط المتكلمين، ودعا لهذه الأسباب إميل بنفينيست ، إلى اعتبار ما يحدث عندما يتحقق الكلام في مقام معين ما يسميه هو الحديث أي العملية التخاطبية، بما تحويه من علامات لغوية وغير لغوية تؤسس للتبادل والتخاطب ، وقد أدى ذلك إلى تطور نظرية التلفظ.[40]
أما في الدراسات الإسلامية التي ركزت على مفهوم الفعل الكلامي كما يعرفه المعاصرون ، والتي أعادت الاهتمام إلى المتكلم باعتباره مؤولا-كما جاء في التقسيم الثلاثي لبيرس ، نجد ابن قيم الجوزية يقول في (بدائع الفوائد:2/139):
"الكلام له نسبتان:نسبة إلى المتكلِّم به نفسه،
ونسبة إلى المتكلَّم فيه، إما طلبا وإما خبرا،
وله نسبة ثالثة إلى المخاطب لا يتعلق بهذا الغرض وإنما يتعلق تحقيقه بالنسبتين الأوليين،
فباعتبار تَينِكَ النسبتين نشأ التقسيم إلى الخبر والإنشاء، ويُعلم أين يجتمعان وأين يفترقان ،
فإن له-بنسبته إلى قصد المتكلم وإرادة ثبوت مضمونه-وصف الإنشاء.
وله-بنسبته إلى المتكلم فيه والإعلام بحقيقته في الخارج-وصف الإخبار."
فهذا-كما يقول الأستاذ الحاج صالح- رائع ولم نجد له ما يماثله في كتب الغربيين بعدُ.[41]
10-اللسان ظاهرة اجتماعية:
أما اللسان فهو ظاهرة اجتماعية "ذهنية" هي الوضع الذي تم الاصطلاح عليه في مجتمع من المجتمعات ، ويقابله الكلام ، أو التأدية الفردية أو الجماعية للسان و هو خاضع لعوامل.
ويقارب هذين المفهومين مفهوما الوضع والاستعمال، كما عرفا عند العرب القدماء.
هذا وقد تابع الغربيون دراساتهم بعد سوسير ، ليميزوا بين الظواهر اللسانية ، والظواهر الكلامية ، فكانت اللسانيات البنوية لا تنظر إلا للظواهر اللسانية ، ولم تهتم بالظواهر الكلامية إلا بوصفها ظواهر عارضة.[42]
إن هذين الخصيصتين الأخيرتين من أهم التطورات التي شهدها البحث اللساني المعاصر ونستطيع أن نجمعها في قولنا:
11-اللسان مؤسسة اجتماعية،
فاللغة من هذا المنظور نشاط مؤسس اجتماعيا ، وهو بهذا الاعتبار ليس كيانا موحدا بل يعرف أيضا التنوع ، الذي هو طبيعته وجزء من كيانه ، ويُنظم هذا التنوع في المجتمع على محورين:
-محور الزمان والمكان(الأفقي)؛
حيث أن مختلف لغات العالم تعرف التنوع اللهجي ، الذي تتداخل فيه العوامل الاجتماعية بالتاريخية والجغرافية وغيرها ، فتجد مثلا في العالم الناطق بالعربية اختلاف اللهجات من الخليج إلى المحيط ، فعلى المستوى الصوتي مثلا تتنوع التأدية بالنسبة لحرف القاف ، وكذا في مستوى المفردات التسميات المختلفة لبعض الألوان والخضر والفواكه وأساليب التحية والسلام، وقد أثبت النحاة القدامى اختلاف إعمال "ما" في بعض القبائل العربية، فبعضها يجعلها ترفع الاسم وتنصب الخبروالبعض الآخر لا يعملها، وتجعل ذلك "لغة".
-محور التنوع الاجتماعي(المحور العمودي)؛
ويساير انتظام المجتمعات البشرية في مستويات وطبقات اجتماعية، فيناسب هذا التوزيع الاجتماعي توزيع لغوي ، وتتنوع بحسب كل فئة اجتماعية استعمالات لغوية تعرف في الاصطلاح المستويات أو السجلات اللغوية . فتصبح مهمة الباحث فيه الكشف عن المقاييس التي تسير استعمالنا للغة بتغير المجتمعات والمجموعات اللغوية.
وما ينبغي أن نسجله ، هو أن التوجهات المعاصرة للدراسات اللسانية ، تنحوا بكيفية خاصة وأكيدة نحو الاهتمام بالتبادلات اللغوية، بصفتها النواة الأساسية للاستعمالات اللغوية ، سواء أحاولت أن تفهم وتكشف ضوابطها الاجتماعية العامة(تلك مهمة علم الاجتماع اللغوي)،أو أنها اهتمت بما يجري عند التبادل بالفعل بين المتكلمين (تلك هي مهمة التداولية بمختلف تياراتها) ، فهما في الأخير يبحثان في موضوع واحد هو تأدية الإنسان الفاعل المتكلم للغة.
ثالثا-وظائف اللسان البشري:
إن حديثنا-السابق-عن خصائص اللسان البشري ، وتَعرُّفنا على ميزة لسانية مهمة من مميزاته ألا وهو كونه أداة للتبليغ ، يقودنا إلى شرح هذا المفهوم ، والكلام عن وظائف اللسان كما تكلم عنها ياكبسون ، ثم الحديث عن دورة التخاطب عنده وفي الدراسات الإسلامية العربية ، كما بينها الأستاذ عبد الرحمن الحاج صالح.
استعان رومان ياكبسون رغم كونه بنويا في البداية ، بالنموذج الذي يستعمله مهندسو الإعلام والاتصال ، في توضيحهم لدورة الخطاب أو التواصل، ويرى أن هناك ستة عناصر ضرورية لإتمام عملية التواصل هي:
1-المرسل،
2-المرسل إليه،
3-الرسالة،
4-السياق،
5-السنن،
6-القناة أو الصلة، وهي القوانين والقواعد التي يشترك فيها طرفا الإرسال.[43]
ثم مثَّلها على شكل دورة تخاطبية يمثلها المخطط الآتي:
وضع
وسائل التشويش خارجية أصوات أخرى
اضطرابات في الرؤية و السمع ... الخ
داخلية تعب ... الخ
وضع
وضع
الاستيضاع التوضيع
-معتقدات
-التصورات
-أفكار ومعارف خبرات وتجارب مقاصد وأغراض تبليغية فيزيائية وفيزيولوجية( الجنس -العمر-المحيط الاجتماعي-الوضع الاقتصادي والثقافي..إلخ)
وعلى أساسها توصل إلى الوظائف التالية:
1-الوظيفة التبليغية:
وهي وظيفة اللسان الرئيسية، وتتمثل في نقل الفائدة أو الخبر، وتندرج في الغرض الأصلي من الكلام ، وهو حصول التبليغ والفهم، وتشمل عناصر دورة الخطاب كلها.
2-الوظيفة التعبيرية:
وتتمثل في التعبير عن الأحاسيس والمشاعر والعواطف ، وتتعلق بالعبارات والعناصر اللغوية ، التي تخص موقف المتكلم في تأدية رسالته أو تبليغ خطابه ، وتسمى الوظيفة الانفعالية وتظهر بشكل واضح في الشعر الوجداني.
3-الوظيفة الخطابية:
وهي التي تتضح عندما يوجَّه الخطاب إلى المرسل إليه ، أو المخاطب بفتح الطاء ، من أجل التأثير في نفسه ، ودفعه إلى الانفعال، والتجاوب مع الخطاب لغويا أو حركيا أو ذهنيا، بتوجيهه بحسب رغبة المتحدث ومقاصده.
4-الوظيفة التوصيلية:
وهي التي تعكس الظروف التي يتم فيها الخطاب ، وتتمثل في تلك المؤشرات أو العناصر اللغوية التي تستعمل لتوصيل الكلام ، وللتأكد من استمراره ، ولفت انتباه السامع إلى أن الخطاب يصله في أحسن الأحوال وأفضل الظروف ، وأن القناة الموصلة للكلام على أحسن وجه ، ومن أمثلة ذلك أدوات التنبيه:أسمعت ، مفهوم ،نعم ، قلت لك ، أمممم ، وكلمة ألو...إلخ.
5-الوظيفة اللسانية:
وتسمى أيضا بالوظيفة التحقيقية ، وهي وظيفة ذات طابع خاص، ذلك أنها تتعلق ببنية النظام اللغوي ، ووصفه من الناحية الصورية التجريدية ، وتسمى في اللغة الأجنبيةmétalangage ، وتُظهر هذه الوظيفة ؛ مدى إدراك المتكلم للوضع ؛ الذي يستعمله أثناء التخاطب اليومي.
6-الوظيفة الجمالية: ويسميها ياكبسون الوظيفة الشعرية ، لأن الشعر يصور الجانب الجمالي للغة أحسن تصوير ، بما يشتمل عليه من موسيقى داخلية وخارجية ، و محسنات بديعية وصور بيانية.
و استعمل ياكبسون من الأجل الوصول إلى وظائفه نظرية الفائدة ، التي كان صاحبها كلود شانون تلميذ نوربرت وينر، وهذا بيانها:
هي نظرية تفنية وضعها علماء الاتصال لتكميم الفائدة-أي قياسها قياسا كميا-التي تشتمل عليها الرسالة ، فإذا كان الخبر مهما بالنسبة للمرسل إليه تكون كميته مرتفعة وعالية ، وإذا كان الخبر غير مهم بالنسبة إليه فإن كميته تكون منخفضة ، فهي إذن نظرية قائمة على النسبة.
وأهم المبادئ التي تقوم عليها هو تبليغ ، أكثر ما يمكن من معلومات بأقل تكلفة ممكنة ، ولتوضيح ذلك نضرب مثلا بالبرقيات، فإذا أردا أحد منا أن يرسل برقية إلى صديقه أو أحد أقاربه ، فإنه يقتصر على كتابة ما هو معتبر في نقل الفائدة فقط ، لأن الزيادة في الكلمات تكلفة إضافية.
وتقاس كمية الفائدة أو المعلومات بوحدة البايت (BIT) وهي مختصرة للعبارة الأنجليزية (BINARY DIGIT) ولها قاعدة رياضية تحسب بها معروفة عند المختصين.[44]
أما في الدراسات الإسلامية قديما ، فإن للعلماء العرب تفهم عميق لكل هذه المفاهيم والتقسيمات ، التي تدخل في العملية التبليغية وتوضحها ، وهذه دورة التخاطب كما تصوروها-بالطريقة التي قدمها الأستاذ الحاج صالح-:
دورة التخاطب عند العلماء العرب.
الخطاب
تموج الهواء
الوضـع
يستعمل المتكلم يحمل المخاطب الخطاب
الوضع لإحداث على الوضع :
الخطــاب :
ألفاظ معان قرائن=أغراض أغراض معان ألفاظ
القرائن الحالية و المقالية
المحاضرة الرابعة:مستويات التحليل اللساني
توصلنا –فيما سبق-إلى أن التحليل العلمي المتصاعد لظاهرة اللسان البشري من أهداف البحث اللساني ، من أصغر صوره إلى أعلاها ، وعليه فأُطلق لفظ "المستوى" على كل مجموعة من الظواهر المتجانسة ، ودُرس اللسان من خلالها ، وسنتعرض لهذه المستويات الواحد تلو الآخر[45]:
أولا-المستوى الصوتي(مستوى الأصوات والحروف):
1-الصوت(مفهومه ومكانته من النظام اللغوي)
أ-تعريف الصوت:هو ظاهرة فيزيائية عامة الوجود في الطبيعة.
ب-تعريف الصوت اللغوي: يتمثل في الأصوات التي تخرج من الجهاز الصوتي البشري والتي يدركها السامع(أي أذنه)، وهو حد التحليل اللغوي ونهايته وأصغر قطعة في النظام اللغوي.
جـ-عناصره:
1-فيزيائية بما أنه صوت؛
2-فيزيولوجية،لأنه يصدر من الجهاز الصوتي البشري؛
3-نفسانية صوتية لأنه مدرك بكيفية خاصة.
د-الصوتيات(علم الأصوات):هو فرع عن اللسانيات ، وينقسم تبعا لانقسام اللسانيات ، ففي اللسانيات العامة ندرس الصوتيات العامة أو علم الأصوات العام ، وفي لسانيات لغة معينة ندرس صوتيات أو علم أصوات هذه اللغة.
تعريفه:
هو العلم الذي يدرس الأصوات اللغوية دراسة علمية ، باستعمال الأجهزة والمخابر ، وتتفرع هذه الدراسة الصوتية إلى ثلاثة أقسام ، تبعا لعملية إحداث الأصوات ، وتتم هذه الأخيرة على ثلاث مراحل تختص بكل منها علم يدرسها:
-المرحلة الأولى(إحداث الأصوات اللغوية):
وهي مرحلة النطق وإخراج الأصوات إلى الوجود ، باستخدام جميع أعضاء الجهاز الصوتي ؛ وهذا المظهر هو التوليدي الإحداثي،أي الفيزيولوجي،وتعنى به الصوتيات الفيزيولوجية.
-المرحلة الثانيـة (إرسال هذه الأصوات بواسطة موجة واهتزاز صوتي عبر الهواء) :
وهي مرحلة الإرسال تظهر من خلالها البنية الفيزيائية للظواهر الاهتزازية للأصوات اللغوية ، ويتمثل هذا المظهر في الجانب الفيزيائي المحض ، تختص بدراسته الصوتيات الفيزيائية.
-المرحلة الثالثة(إدراك هذه الأصوات بواسطة الأذن):
وهي مرحلة الإدراك بواسطة الجهاز السمعي أي الأذن ، وينتج عن ذلك ظواهر نفسية صوتية معينة ، فنستطيع أن نقول أنه الجانب الإدراكي النفسي السمعي للأصوات اللغوية ، والعلم الفرعي الذي يدرسه هو الصوتيات السمعية ، معتمدة على صفاته الفيزيائية النفسية والفيزيولوجية[46].
2-الصوتيات الفيزيائية:
ومصدر هذا العلم علمان؛ الصوتيات العامة الذي يهتم بالصوت، واللسانيات ؛ الذي يهتم بالدراسة العلمية للسان.
وتعمل الصوتيات الفيزيائية على اكتشاف الخصائص الفيزيائية، للظواهر الاهتزازية والتموجية الموجودة في الأصوات اللغوية ، ويهتم بهذه الأخيرة عند خروجها من الجهاز الصوتي ، وانتشارها في الهواء ، أي في تلك الفترة التي تمتد من زمن حدوثه إلى زمن استقباله.
أ-تحديد الصوت-من هذا المنظور-:
تعرفه الصوتيات كالتالي: اضطراب طبيعي خارجي يعرض لجميع الأجسام وخاصة الهواء، وهو أي الاضطراب ، من جنس وصنف الظواهر الاهتزازية والتموجية ، وهو حركة جسم في اتجاهين، وينتشر هذا التموج في الهواء أو في عيره من المواد القابلة للاهتزاز.
والأصوات اللغوية، من هذه الحيثية ، تنتمي إلى هذا الصنف من الظواهر الفيزيائية ، وه بذلك يتصف بمجموعة من الخصائص الفيزيائية.
ب-الخصائص الفيزيائية للأصوات اللغوية:
وتنقسم إلى قسمين: فيزيائية محضة ، وفيزيائية نفسية .
ب-1-الصفات الفيزيائية المحضة:
وهي خصائص موضوعية راجعة إلى طبيعة الظاهرة الصوتية نفسها.
ب-1-1-الأصوات الدورية والأصوات غير الدورية:
فالصوت من جنس الظاهر الصوتية الاهتزازية ، ولهذه الحركة الاهتزازية مميزات ، تتوقف عليها طبيعة التموج وبالتالي طبيعة الصوت ، ومن هذه الخصائص الكيفية التي تهتز بها ، فإذا حدثت الحركة الاهتزازية في فترات متساوية كحركة النواس أو الرقاص نقول إن الحركة دورية ، مثلما يوضح ذلك الرسم البياني التالي:
هـ دورة كاملة
أ د ب ج
وعندما تصور هذه الحركة بواسطة المهزاز[47]، تظهر على شكل منحنى جيبي ، وتكون غير دورية ، إذا لم تقع في فترات غير متساوية ، ولهذا أثر بالغ قي تحديد الأصوات اللغوية ، فإذا حدث الاهتزاز في فترات متساوية ، يحدث تموجا منتظما متناسب الأجزاء، ويسمى "النغمات" ، فبالنسبة لأصوات اللغة فإن جميع ما يُمدد ويُردد لا يحتاج إلى جهد عضلي كبير، بل يحدث بإعمال الحنجرة فقط، وتشكيلٍ يسيرٍ لهيئة التجاويف العليا ، فهي أصوات دورية أي نغمات وهي في اللغة الحركات.
أما الأصوات غير الدورية ، فهي أصوات ضوضائية أو قروع ، وهي كل الأصوات اللغوية ما عدا الحركات.
ب-1-2-التردد:
ويتمثل في عدد الدورات الكاملة ، التي يمر عليها الجسم المهتز في الثانية ، تلك هي إذن سرعة الاهتزاز ، وكل صوت لغوي من حركات وقروع له تردده الخاص به.
ب1-3-سعة الاهتزاز:
تقاس بالمسافة التي توجد بين الوضع الأول للجسم في حالة السكون ، وأقصى موقع يصل إليه الاهتزاز.
ب-1-4-الشدة:
هي مقدار الطاقة الصوتية التي تنفذ في الوحدة الزمنية المعينة من خلال سم واحد ، موضوعا في وجه الصوت على هيئة عمودية؛
وتتأثر شدة الصوت بسعته ؛ فكلما ازدادت سعة الاهتزاز ازدادت الشدة ، كما أن للتردد أثر عليها.
ولا تستطيع الأذن أن تدرك الأصوات التي تقل عن 20هرتز، وهذا هو حد الإدراك السمعي ، ولا يمكن أن تدركها أو تصاب بالصمم عندما تفوق الدرجة20000 هرتز، إذ يشكل هذا الرقم عتبة الألم، التي لا تستطيع الأذن بعدها أن تسمع شيئا فتصير صماء.
ب-1-5-الأصوات البسيطة والأصوات المركبة:
لا توجد في واقع الأمر أصوات بسيطة من الأصوات اللغوية مثلما هو الحال بالنسبة لصوت القضبان الرنانة التي لها تردد واحد فقط.
أما الأصوات المركبة ؛ فتتألف من عدد غير معين من الدورات المتناسبة إن كانت غير دورية ، وكل صوت يشتمل على تردد أساسي ثم ترددات أخرى ، تزداد سرعتها على سلم تناسبي:النصف بضعفي السرعة ؛ الثلث بثلاث أضعاف السرعة..إلخ.
نقول إن هذه الأصوات مكونة من نغمة أساسية ونغمات جزئية توافقية.
ب-2-الصفات الفيزيائية النفسية:
وهي خصائص ذاتية راجعة عن إدراك الأذن للأصوات ، فهي موقوفة على الصفات الفيزيائية المحضة ، التي تكيفها عملية الإدراك الحسي والنفسي.
ب-2-1-درجة الصوت أو طبقته:
وتتمثل في الانطباع السمعي ، الذي تشعر به الأذن ، عندما تدرك التردد ، وهي موقوفة على سرعة الاهتزاز، فكلما ارتفع التردد كان الصوت حادا ، أي تكون طبقته عالية ، وكلما تناقص كان الصوت ثقيلا أي طبقته منخفظة ، يمكن إذن أن نقول إن درجة الصوت هي التردد المدرك.
ب-2-2- الجرس:
الجرس هو الصفة الجوهرية الذاتية ، التي يمتاز بها صوت عن صوت آخر عند الإدراك.
فلكل حركة جرس خاص بها ، عماده مجموعة من التوافقات المعينة، تطغى بشدتها على غيرها ، فتسمع وحدها، وكذلك هو الأمر بالنسبة إلى الصوامت إذ كما أسلفنا الترددات فيها غير دورية.
ب-2-3-الشدة الصوتية المدركة:
إن الاحساس بشدة الصوت ، يساوي لوغارتم الطاقة الصوتية ، وتقاس بالديسبال.
ب-2-4-ظاهرة الصدى أو الرنين:
وتلعب هذه الظاهرة الفيزيائية دورا خطيرا في تحديد أجراس الصوت.
ويقصد بها ذلك الصوت الذي يسمع في الأوعية الفارغة كما يقول ابن جني. ذلك أن الصوت إذا حدث بالقرب من جسم مجوف أثار فيه صدى ، فكل اهتزاز يحدث في مكان ما ، قادر على تحريك جميع الأجسام القابلة للاهتزاز في ذلك المكان ، فيحدث فيها اهتزاز، فإذا حصل هذا ، فإن مجموعة الاهتزازات المثارة تُسمع صوتا واحدا أضخم وأقوى من الصوت المثير لها ، شريطة أن يكون ترددها الذاتي مناسبا لتردد الصوت الطارئ ، وتسمى هذه الأجسام الرنانات مثل بطون المعازف مثلا.
أما بالنسبة للجهاز الصوتي ، فإن تجاويف الفم والأنف والحلق والتجويف الخاص بمد الشفتين ، تلعب دور الرنانات ، إذ أنها تكيف الصوت الحنجري (النغمة الأساسية) ، وتقوي بعض التوافقيات في الصوت اللغوي.
ثم إن ظاهرة الصدى تتأثر بحجم وشكل الجسم الرنان.
فكلما كان ضخما كلما انخفضت سرعة اهتزازه ، والعكس صحيح، يعني كلما كان صغيرا ارتفع تردده ، في حين أن ذلك التردد يرتفع إذا كانت فتحة الرنان كبيرة ، وينقص في حال صغر الفتحة.
ملاحظة:
إن لهذه الخصائص كلها، أهمية بالغة في الدراسة الصوتية ، فإن معرفتنا لهيئات الحلق والفم وغيرها من الأعضاء ، ولمعرفتنا في نفس الوقت للصفات الفيزيائية التي تختص بها الأصوات ، وربطنا هذه بتلك تجعلنا نحدد هوية كل حرف ، ونشخصه تشخيصا فيزيائا و فيزيولوجيا.
جـ-التحليل الصوتي الفيزيائي للأصوات اللغوية:
إن استعمالنا للرواشح الصوتية، وآلة المشباح ، تمكننا من تحليل الأصوات اللغوية تحليلا فيزيائيا.
جـ1-المصوتات:
تُظهر أشباحها ، أن أجراسها ناتجة عن بروز مجموعة من التوافقيات ، وتقويتها ، واختفاء البعض الآخر بفعل التجاويف الرنانة، التي تتشكل أشكالا مختلفة باختلاف الحركات ، وتسمى هذه المجموعات البارزة الشديدة السواد في المشباح ، البواني أو المكونات، فلكل صوت مكونان بارزان.
جـ2-الصوامت:
تظهر القروع أو الأصوات الضوضائية، التي تتركب منها الصوامت، جزئيات غير متناسبة ، وللصوامت بواني أيضا ففي أشباحها مناطق شديدة السواد سفلية أو علوية ، والتي تطغى على غيرها من الاهتزازات المصاحبة لها ، غير أن شدة الثقل أي الدرجة، ليست ذاتية بالنسبة للسامع لتشخيص الصوامت ، لأن مدة حدوثها قصيرة جدا ، فكادت أن تخفى عن السمع ، لولا أنه يستدل بالتغيرات النغمية و القرعية ، التي تحصل عند الانتقال بالنطق من صوت إلى آخر، خاصة عند الانتقال من الحركة إلى الصوامت ، إذ تتداخل التأثيرات ، وتسمى هذه التغيرات بالتغييرات النقلية أو النقلات .
2-الصوتيات الفيزيولوجية:
الصوتيات الفيزيولوجية هي القسم من علم الأصوات الذي يهتم بالمرحلة الأولى لإحداث الأصوات ، وإن كانت هذه الصوتيات فيزيولوجية فإنها لا تهتم بكل أعضاء جسم الإنسان ، بل تقصر اهتمامها بمجموعة الأعضاء التي تساهم في إحداث الأصوات اللغوية، والتي تُكوِّن ما يسمى بالجهاز الصوتي أو الآلة الصوتية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق