هل تصلح "التداولية" منهجاً نقدياً
أهملتها الدراسات اللسانية حين أقصت السياق وعزلته عن النص
عبدالعزيز ابراهيم
قد يقال لنا: ما تتجاوزه الحداثة الغربية من منهجية نقبله ونقف عنده طويلاً فنقتله نقاشاً ونختلف عليه جدلاً. نرد عليهم قائلين إن ما يصلنا من مناهجهم يكون وصوله متأخراً وقد نفض النقد الغربي يده منه، فضلاً عن أن الحداثة الغربية لم تكن من فكر رجل واحد او نتاج بلد واحد. ناهيك عن كونها خلطاً في مكوناتها المعرفية من علوم نفسية واجتماعية وفلسفية أقحمت على التحليل بحجة التأويل والتفسير. فكانت بهذا الجمع غير المتجانس وراء عدم استقرار هذه المنهجية او الاتفاق على تعريف محدد لأي من مصطلحاتها.
أشكالية تعريف
ومن هذا التعثر النقدي أن أشكل علينا تعريف التداولية التي أهملتها الدراسات اللسانية الحديثة حين أقصت السياق وعزلته عن الجملة او النص. وهذا ما دفع بهذه الدراسات الى أن تخوض في مستوى جديد من مستويات الجملة، وهو مستوى حاسم على صعيد تحديد الدلالة وفهم تحولاتها وتغيراتها، وهذا المستوى الجديد هو الذي يطلق عليه التداولية حيث تتوجه فيه الدراسات اللسانية الى العناية بأثر التفاعل التخاطبي في موقف الخطاب ويستتبع هذا التفاعل دراسة كل المعطيات اللغوية والخطابية المتعلقة بالتلفظ لاسيما المضامين والمدلولات التي يولدها الاستعمال في السياق. وتشمل المعطيات:معتقدات المتكلم ومقاصده وشخصيته وتكوينه الثقافي ومن يشارك في الحدث اللغوي. والوقائع الخارجية ومن بينها الظروف المكانية والزمانية والظواهر الاجتماعية المرتبطة باللغة. فضلا عن لمعرفة المشتركة بين المتخاطبين واثر النص الكلامي فيها.
ظواهر قولية
وهذه المعطيات تخضع وتحد بظواهر قولية يختلف في هذا التحديد الباحثون فمنهم من يرى أنها أقوال تتحول الى أفعال ذات صيغة اجتماعية بمجرد التلفظ بها، ومنهم من ينظر إليها من خلال الآثار اللغوية التي تظهر من الخطاب وتنظر في عنصر الذاتية للخطاب ذاته. ويشمل هذا التداول ضمائر الشخص ومهمات الزمان والمكان وينظر في الجانب الضمني والتلميحي والحجامي للكلام. والسياق يفرض على المتكلم احترام مجموعة قوانين الخطاب أثناء مخاطبته لغيره. وحدها بعض الباحثين كونها تعني باستعمال اللغة وتهتم بقضية التلاؤم بين التعابير الرمزية والسياقات المرجعية، وتعتمد في منهجيتها التداولية على أفعال كلامية قسّمها (أوستين) الى ثلاثة أنواع من الأعمال اللغوية هي:
أ- العمل القولي او الفعل اللغوي. ويقصد به الأصوات التي يخرجها المتكلم، أي جملة الأفعال الصوتية والصرفية والتركيبة والدلالية بشرط أن تكون سليمة.
ب- العمل المتضمن في القول او فعل الإنجاز. ويراد به أن المتكلم حين يلفظ بقول ما فهو ينجز معنى قصدياً او تأثيراً مقصوداً. وهو ما أسماه (أوستين) بقول الفعل. وقد اشترط لتحقيق هذا المعنى ألإنجازي ضرورة تتوفر السياق المعرفي الاجتماعي كالوعد مثلاً.
ج- عمل التأثير بالقول او فعل التأثير. ويعني أن الكلمات التي ينتجها المتكلم في بنية نحوية منتظمة محملة بمقاصد معينة في سياق محدد تعمل على تبليغ رسالة وتحدث اثراً عند المتلقي او المستمع. ويتمثل بما يحققه القائل بقوله من نتائج وما ينجز عنه من تبعات كإزعاج المخاطب وتخويفه وإقناعه او حمله على سلوك معين او صرفه عنه.
اشكال اوستين
وهذه الأفعال القولية يشترط منظرو التداولية في تحقيق فعل الانجاز عامل القصد فإذا صدر من شخص يرفض في قرارة نفسه دلالته يعد فعلاً غير متحقق وهناك أفعال لا قولية جمعها اوستين في خمسة أنواع هي: الحكميات، التنفيذيات، الوعديات، السلوكيات، العرضيات، والإشكال في مقترحات "أوستين" هذه أنه لا يصنف اعمالاً بل يصنف أفعالاً فضلاً عن أنه يحلل الدلالة مع المعنى. وقد قسمها (سيرل) الى خمسة أخرى وإن تأثر بتصنيف أوستين على ان الفكرة الأساسية التي تطرحها الأفعال غير المباشرة هي معرفة كيف يمكن للباث ان يقول شيئاً ويعني ذلك وهو في الوقت نفسه يريد ان يقول شيئاً آخر ومن ثم معرفة إمكانية المخاطب في فهم الفعل الكلامي غير المباشر؟ ويجيب سيرل قائلاً أن المتكلم يستطيع ان يبلغ المخاطب أكثر مما يقوله بالفعل باستناده الى مقدرات المخاطب العقلانية والاستدلالية.
انواع التداولية
وقد نظر الى التداولية على أنها ثلاثة أنواع: الاول اللفظية وهي لسانيات التلفظ وتبناها تشارلز موريس وتهتم بوصف العلاقات الموجودة بين المعطيات الداخلية للملفوظ وخصائص الجهاز التلفظي (المرسل/ المتلقي/ صفة الملفوظ) والثاني التخاطبية وهي نظرية المقول وعلاقتها. وتبناها (جين أوستين) و(سيرل) وتهتم بالحالة التخاطبية المكبوتة داخل الملفوظ والتي تسمح بالاشتعال كفعل لغوي. والثالث التجاورية. وقد نتج تطورها عن إستيراد الحقل اللساني للأفكار المؤسسة اصلاً من لدن الانثربولوجيين وتشتغل على الحوارات، وهي تبادلات كلامية تقتضي خصوصيتها أن تنجز بمساعدة دوال لفظية.
وإذا كانت التداولية في تكونها لسانية المنشأ قريبة الصلة من طروحات التوليديين فإنها تتوافق ومفهوم القدرة اللغوية الذي قال به جومسكي غلا أنها تعترض على تعامله للغة بوصفها بنية مجردة او قدرة ذهنية يمكن عزلها عن وظائفها ومستخدميها. أي أنها لم تأخذ الواقع الاجتماعي للاستعمالات اللغوية. وتبقى المهام الملقاة على التداولية كونها حمولات ينظر إليها من زاوية المتكلم حيث تقدم ما تجاوزته اللسانيات او غضت الطرف عنه في درسها اللغوي وما أظهرته الدلالة كونها أعطت وجهاً وأهملت الجوانب الأخرى من القول، حيث نوجزها في ثماني نقاط هي:
الاولى/ دراسة استعمال اللغة التي لا تدرس البنية اللغوية ذاتها، إنما تروم دراسة اللغة في الطبقات المقامية المختلفة، أي بوصفها كلاماً مجدداً صادراً من متكلم مجدد في مقام تواصلي محدد لتحقيق أغراض تواصلية محددة.
الثانية/ شرح كيفية جريان العمليات الاستدلالية في معالجة الملفوظات.
الثالثة/ بيان أسباب أفضلية التواصل غير المباشر او غير الحرفي على التواصل الحرفي المباشر.
الرابعة/ توضيح أسباب فشل المعالجة اللسانية البنيوية في دراسة الملفوظات.
الخامسة/ تجسير (ربط) العلاقة بين الأنشطة الإنسانية الآتية: اللغة والتواصل والإدراك، وبيان القواسم المشتركة بين الفروع المشتغلة بهذه الأنشطة، أي علم اللغة وعلم التواصل وعلم النفس المعرفي. ودراسة الوجوه الاستدلالية للتواصل الشفوي، فتقيم روابط بين علمي اللغة والتواصل.
السادسة/ العناية بالشروط اللازمة كي تكون الأقوال اللغوية ناجحة في الموقف التواصلي.
السابعة/ دراسة كيفية ربط اشتراطات نجاح الملفوظ واسس التفاعل الابلاغي ببنية الخطاب وتفسيره.
الثامنة/ دراسة مكونات التخاطب، المخاطب والمخاطب والخطاب والمساق وتأثيرها في المقولات اللغوية من ناحية التفسير والتأويل.
تواصلية المتكلم والسماع
ولا يمكن ان تكون هناك تداولية دون تواصلية الباث (المتكلم) مع المتلقي (السامع) لإيصال رسالة الى الثاني وما يلقى عليه لتفسير وجوه القول عند الإرسال. فيعرف التواصل بأنه حوار متبادل بين متكلم ينتج ملفوظاً موجهاً الى متكلم آخر ومخاطب يتوخى منه الاستماع او الإجابة الصريحة او الضمنية حسب طبيعة الملفوظ. ولا يتم التواصل دون إبعاد زمنية –مكانية للملفوظ او السياق المقامي. وهي علاقات زمنية بين لحظة التلفظ ولحظة الملفوظ (الجهة والزمن) وعلاقات مكانية بين المتكلم وموضوعات الملفوظ، الحاضرة او الغائبة القريبة او البعيدة، وعلاقات اجتماعية بين المشاركين في التواصل وبين موضوع الملفوظ. وبالتالي فإن هناك علاقات داخلية تنتظم فيها متواليات الجمل وهذه العلاقات هي التماسك والترابط، علاقات خارجية يحكمها السياق الذي يشمل المحيط الثقافي والاجتماعي والمعرفي والتاريخي، دون ان تُهمل الإشارة والحركة.
أما تحليل النص فإنه ينبغي ان لا يستند الى هيكله القواعدي وترابطه الدلالي حسب، لأن النصوص ليست صوراً للواقع فقط وإنما لها أيضاً وظائف اتصالية محددة وهي مرتبطة بالعوامل التداولية، مثال ذلك كلام الأم لأبنها وهما على مائدة الطعام: "نحن نأكل الآن" فقد تكون جملة تأكيد أو أمر بغسل يده او المنع من اللعب بالدمية، او الرفض لجلب الدمية.. الخ.
وعلى ضوء ما قدمنا، فإن السؤال الذي يواجهنا: هل تصلح التداولية منهجاً نقدياً يمكن لنقدنا العربي الحديث أن يسلك شعابه؟ وللإجابة عن هذا السؤال لابد من التذكير أن نشأة التداولية ارتبطت بالحداثة الغربية التي اختلفت رؤيتها بين الشكلانيين الذين نظروا الى اللغة على أنها ظاهرة عقلية والوظيفيين الذين رأوا فيها ظاهرة اجتماعية.
هذا التباين انسحب على العمل الأدبي، فتعصب البنيويون لموت المؤلف وأقاموا القارىء شاهداً حياً لإنتاج المعنى. ولم تكن التداولية ببعيدة عن ردة الفعل ضد هذا الأتجاه والدعوة لإقامة المؤلف او تسميه بالمتكلم كونه صانعاً الخطاب، وبذلك حولت المتلقي من منتج للمعنى الى باحث عن قصدية المتكلم وما جر هذا على الدلالة من تغيير في وجوه المعنى، وبالمقابل فإن التداولية صانت نفسها عن البراجماتية كونها ممارسة فلسفية قيدت نفسها بها خلال تطورها، فأخذت استقلاليتها بوصفها حقلاً لغوياً بديلاً حين حددت وجودها العملي في معالجة الاهتمام بالمعنى. وبذلك أصبحت التداولية جزءاً من مناهج الحداثة عامة والدرس اللساني على وجه الخصوص، لكن ذلك لا يعني ان نقف عند التداولية دون المناهج الأخرى عندما نواجه العمل الأدبي تحليلاً، لأن ما جاءت به التداولية من تقسيمات على يد أوستين مثلت جانباً في العمل النقدي ومن الصعب ان نتجاوز ما قدمته المناهج الأخرى.
***********
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق