هذا المشروع يحتاج إلى تكاتف الجهود، وإلى بذل وصبر، وهذا ما أتمناه ممن يشتغلون بالدرس اللغوي العربي القديم، ويؤمنون به، وهذه تجربة أولية، أرجو أن يجد فيها القارئ المهتم ما يفيده ويحفزه، ويقربه إلى هذا التراث الذي يحتاج إلى أن يكتب بلغة العصر حتى يقترب منه الإنسان المعاصر، لأن لكل عصر لغته، ومن سوء التدبير أن نخاطب أهله بغير ما يفهمه.
النص التجريبي المشروح:
قال سيبويه –رحمه الله- : هذا
باب علم ما الكلم من العربية, قال ابن جني رحمه الله: "و قال سيبويه:
(هذا باب علم ما الكلم من العربية) فاختار الكلم على الكلام, و ذلك أن الكلام اسم
من كلّم, بمنزلة السّلام من سلّم, و هما بمعنى التّكليم و التّسليم, و هما
المصدران الجاريان على كلّم و سلّم, قال الله سبحانه و تعالى: "وكلم الله
موسى تكليما" و قال –عزّ اسمه-: "صلّوا عليه و سلّموا تسليما" فلما
كان الكلام مصدرا يصلح لما يصلح له الجنس, و لا يختص بالعدد دون غيره عدل عنه إلى
الكلم الذي هو جمع كلمة, بمنزلة سلمة و سلم, و نبقة و نبق, وثفنة و ثفن, و ذلك أنه
أراد تفسير ثلاثة أشياء مخصوصة, و هي الاسم و الفعل و الحرف, فجاء بما يخص الجمع و
هو الكلم, و ترك ما لا يخص الجمع و هو الكلام, فكان ذلك أليق بمعناه و أوفق
لمراده"[1] .
فالكلم: اسم, و فعل, وحرف جاء لمعنى ليس باسم
و لا فعل.
ذكر سيبويه ههنا الأنواع التي تندرج تحت هذا الجنس
(الكلم), و أورد أنها لا تعدو ثلاثة أنواع؛ (اسم و فعل) و هذان النوعان كل منهما
يحمل في ذاته ما يميزه عن غيره, خلافا للحرف الذي لا مميز له سوى أنه يأتي للدلالة
على معنى (جاء لمعنى) إلا أن هذا المعنى لا يتحدد
إلا داخل السياق أما خارجه فلا دلالة معينة أو محددة له, فكأنه قبل دخوله السياق
من الأصوات المبهمة الغامضة, إلا أن هذا الغموض و الإبهام سرعان ما يزول و تصير
للحرف دلالة معينة إذا استحضر و طلب في سياق لغوي ما, بل و قد يختل التركيب من دون
إيراده و ذكره, وسبب هذا التنبيه هو أن الحرف لا دلالة ذاتية له كما للاسم و
الفعل, إلا أن سيبويه لم يكتف بهذا التعريف (التعريف بالعلة؛ جاء لمعنى) بل أضاف
قيدا آخر و هو كونه (ليس باسم و لا فعل) و هذا
يسمى التعريف بالخلف "وتدل عليه علامة (ليس) التي تفيد في السياق معنى
الغيرية المسلوبة و تنطلق على النوعين الذين يختلف عنهما الحرف داخل جنس الكلمة, و
وجه الاختلاف بينهما أن الحرف - أي النوع المثبت في سياق الحد - يفيد معناه بطريقة التعلق بالغير و
لا بطريقة امتلاك معناه بذاته كالاسم و الفعل و في ذلك تقابل بين قدرة الكلمة على
إفادة معناها المعجمي بذاتها و عجزها عن ذلك و افتقارها افتقارا متأصلا إلى
غيرها"[2].
إلا أن هذا التحليل على هذا الوجه يقودنا إلى سؤال مهم يوجب
علينا إيجاد إجابة واضحة له, و هو: إذا كانت دلالة الحرف تركيبية لا معجمية فكيف
يجوز لنا أن نطلق عليه لفظ كلمة و نحن نعلم أن الكلمة: هي ما دلت على معنى مفرد,
أو بعبارة أخرى لها مدلول متواضع عليه؟, ولعل هذا التصور هو الذي قاد الجرجاني –رحمه
الله- إلى تصور تحليل خاص للحرف ذهب فيه إلى مراد النحاة بقولهم (ما جاء لمعنى)
أي: " لمعنى غير منصرف"[3],
و يشرح مدلول عدم الانصراف قائلا: "و معنى التصرف أن يكون فاعلا و مفعولا و
مضافا إليه, تقول: ضرب زيدٌ, و ضربت زيداً, و جاءني غلام زيدٍ, فتختلف المقاصد و
المعاني في زيد باختلاف آخره, و لا يكون هذا في الحرف؛ لأن قولك: (هل) يدل على
الاستفهام, و (بل) على الاستدراك, و (إلى) على انتهاء الغاية, و (من) على ابتدائها,
و لا يكون فيها شيء من التصرف, و الذي وصفناه في نحو (زيد) من الفاعلية و
المفعولية و الإضافة.و كذا لا يكون له إعراب في التقدير كما يكون للأسماء المبنية
نحو: أين و متى, ألا ترى أنك إذا قلت: من أين زيد؟ كان في موضع جر؛ بدلالة أنك تضع
موضعه ما يظهر فيه الإعراب فتجده مجرورا؛و ذلك قولك: من أي موضع زيد. و إذا كان
الحرف دالا على معنى غير متصرف فارق بذلك الأسماء المتمكنة نحو: زيد و عمرو و
أحمد, لأنها تتصرف على ما ذكرنا, وفارق الأسماء المبنية نحو: أين و متى من جهة
تعريه من الإعراب التقديري, و إذا باين هذه الأقسام الثلاثة كان قولهم: ما جاء
لمعنى ليس غير, حدا للحرف, لأنه بمنزلة أن تقول: الحرف ما دل على معنى غير متصرف
لم يكن له إعراب بوجه, و لم يتضمن الزمان و هذا مطرد منعكس, إذ ما من لفظ تجتمع
فيه هذه الشرائط إلا أن يكون حرفا, و من لفظ يتعرى منها إلا و لا يكون من الحروف"[4],
و هذا التحليل الذي قدمه الجرجاني يخالف ما عليه جمهور النحاة, قال الرضي –رحمه الله-"
نقول: أن معنى (من) الابتداء, فمعنى (من) و معنى لفظ الابتداء سواء إلا أن الفرق
بينهما أن لفظ الابتداء ليس مدلوله مضمون لفظ آخر ينضاف ذلك المضمون إلى معنى ذلك
اللفظ الأصلي, فلهذا جاز الإخبار عن لفظ الابتداء؛ نحو: الابتداء خير من الانتهاء,
و لم يجز الإخبار عن (من) لأن الابتداء الذي هو مدلولها في لفظ آخر, فكيف يخبر عن
لفظ ليس معناه فيه؟ بل في لفظ غيره, و إنما يخبر عن الشيء باعتبار المعنى الذي في
نفسه مطابقة, فالحرف وحده لا معنى له أصلا إذ هو كالعلم المنصوب بجنب شيء ليدل على
أن في ذلك الشيء فائدة, فإذا انفرد عن ذلك الشيء بقي غير دال على معنى أصلا, فظهر
بهذا أن المعنى الإفرادي للاسم و الفعل في أنفسهما,و للحرف في غيره"[5],
و قال:"و من أجل أن معناه في غيره, احتاج في كونه جزء كلام
إلى اسم كالتنوين في: زيد قائم, أو فعل نحو: قد في: قد قام زيد,...., وقد ذكرنا في
أول الكتاب: أن الكلام أخص من الجملة, فالاسم يصح أن يكون جزء الكلام من دون شيء
آخر, و كذا الفعل في نحو: قام زيد, و أما الحرف فلا بد في كونه جزء كلام من فعل أو
اسم, و قد يحتاج إلى المفرد كما ذكرنا, و قد يحتاج إلى الجملة, كحرف النفي و
الاستفهام و حرف الشرط"[6],
و لعل مراده بذكر (ليس باسم و لا فعل) إخراج ما يشتبه مع الحرف و هو اسم من مثل
اسم الموصول العام: ما, أو من, و هو ما لمح إليه ابن فارس حيث قال: " و أقرب
ما فيه ما قاله سيبويه, إنه الذي يفيد معنى ليس في اسم و لا فعل؛ نحو قولنا: زيد
منطلق, ثم تقول: هل زيد منطلق؟ فأفدنا ب(هل) ما لم يكن في زيد و لا في منطلق"[7],
إلا أن ابن تيمية-رحمه الله- ذهب مذهبا ذكر فيه أن المراد: حرف جاء لمعنى و ليس-أي
الحرف-باسم و لا فعل, و ليس المراد: حرف جاء لمعنى و ليس المعنى الذي يفيده الحرف
باسم و لا فعل, أي أن المقصود من هذا الإيراد هو التنبيه على لفظ المصطلح (مصطلح
الحرف) لا على معناه, يتبين هذا من التعليل الذي أورده؛ قال: "و كثيرا ما
يوجد في كلام المتقدمين: هذا حرف من الغريب, يعبرون بذلك عن الاسم التام...و
النحاة اصطلحوا اصطلاحا خاصا...لأن سيبويه قال في أول كتابه: الكلام: اسم, و فعل,
و حرف جاء لمعنى ليس باسم و لا فعل؛ لأن سيبويه كان حديث العهد بلغة العرب, و قد
عرف أنهم يسمون الاسم أو الفعل حرفا, فقيد كلامه بأن قال: و قسموا الكلام إلى: اسم
و فعل و حرف جاء لمعنى ليس باسم و لا فعل"[8],
و يؤيد هادي أحمد فرحان ما ذهب إليه ابن تيمية –رحمه الله- محتجا له بأمور منها:
"أولا: إن سيبويه إنما كان في صدد الحديث عن الألفاظ التي يتألف منها
الكلام, و من المناسب أن يتوجه الكلام جميعه إلى الألفاظ, فلو توجه الكلام في هذا
القيد إلى المعنى كان ذلك خروجا عن سياق الكلام.
ثانيا: أن سيبويه
يعلم أن الحرف يطلق على: الاسم, و الفعل, و حرف المعنى و حرف الهجاء, فيكون قوله: (جاء
لمعنى) مخرجا لحرف الهجاء, و قوله: (ليس باسم و لا فعل) مخرج للاسم و الفعل. و هذه
القيود ضرورية لتبيين مقصود العالم بلفظه, إذا كان للفظ أكثر من معنى, لا سيما قبل
أن يشتهر المصطلح.
ثالثا: إن هذا القول
يتناسب مع ظاهر النص,و ليس فيه تغيير للعبارة كما في غيره.
رابعا: أن المعاني
قد يشترك في تأديتها الاسم, و الفعل, و الحرف؛ فلفظ (الابتداء) يدل على معنى موجود
في (ابتدأ) و موجود في (من), فمن المناسب إذا أن يكون القيد متوجها إلى اللفظ.
خامسا: و الذي يقطع
بذلك من جهة الصناعة النحوية أن سيبويه قال في التمثيل للحرف: " و أما ما جاء
لمعنى, و ليس باسم و لا فعل, فنحو: ثم, و سوف...فذكر (الواو) قبل جملة (ليس), فلو
كان قوله: (وليس باسم و لا فعل) تابعا ل(معنى) لجاء بلا واو؛ لأن القاعدة النحوية
تقول: أن الجمل بعد النكرات صفات, و لفظ (معنى) نكرة, فلو كانت جملة (ليس) وصفا له
لجاءت بلا (واو) لأن الصفة لا تعطف على الموصوف.
فتعين أن يكون قوله: (ليس باسم و لا فعل) معطوفا على
قوله: (جاء لمعنى) و ضمير (ليس) الذي هو اسمها, هو الضمير المستتر في (جاء),و هو
عائد إلى (الحرف) الذي يمثله الاسم الموصول (ما)"[9],
و على كل فإن جميع الأقوال محتملة, إلا أن أقواها ما ذهب إليه ابن تيمية معضدة
بحجج هادي أحمد فرحان, و لعل الإجابة التي تقبل بعد هذا العرض حول مدلول الكلمة هي
أنّ الكلمة عرّفت و هي داخل التركيب فلاحظ النحاة أنها تؤدي معنى مفردا متواضعا
عليه, و إذا فهمنا أن منطلق النظر كان التركيب فإن إشكالية تحديد الكلمة لا تبقى
قائمة...و الله أعلم بالمراد.
ثم قال: (فالاسم: رجل, و فرس, و
حائط) . الاسم لغة: هو ما دل على مسمّى .....
[1] - الخصائص, أبو الفتح عثمان ابن جني
(ت392هـ), تح:عبد الحكيم بن محمد, ج1, دط, دت, المكتبة التوفيقية, ص37.
[2] - المصطلح النحوي و تفكير النحاة العرب, توفيق قريرة,
ط1, 2003,كلية الآداب-منوبة/ دار محمد
علي, تونس, ص125.
[3] - كتاب المقتصد في شرح الإيضاح, عبد القاهر الجرجاني, تح:
د/ كاظم بحر المرجان, ج1, دط, 1982, منشورات وزارة الثقافة و الإعلام –الجمهورية
العراقية, المجلد الأول, ص85
[4] - المصدر
نفسه, ج1, المجلد الأول, ص85.
[5] - شرح كافية ابن الحاجب, م1 , ط1, 1998, دار الكتب
العلمية, بيروت, لبنان, ص35.
[6] -شرح كافية ابن
الحاجب, رضي الدين الأستراباذي, قدم له ووضع حواشيه و فهارسه: د/ إميل بديع يعقوب,
م4, ط1, 1998, دار الكتب العلمية, بيروت, لبنان, 263.
[7] -الصاحبي في فقه اللغة
العربية و مسائلها و سنن العرب في كلامها, أحمد ابن فارس, حققه و ضبط نصوصه و قدم
له: د/ عمر فاروق الطباع, ط1, 1993,مكتبة المعارف, بيروت, لبنان, ص87.
[8] -مجموعة الفتاوى 12/62, نقلا عن: الدراسات اللغوية
والنحوية في مؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية, و أثرها في استنباط الأحكام الشرعية,
د/ هادي أحمد فرحان الشجيري, ط1, 2001, دار البشائر الإسلامية, بيروت لبنان, ص416.
[9] - الدراسات اللغوية والنحوية في مؤلفات شيخ الإسلام ابن
تيمية, و أثرها في استنباط الأحكام الشرعية, د/ هادي أحمد فرحان الشجيري, ط1, 2001,
دار البشائر الإسلامية, بيروت لبنان, ص417-418.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق