المنهج البنيوي مفاهيمه وإجراءاته التطبيقية
المنهج البنيوي مفاهيمه وإجراءاته التطبيقية
***********************************
المنهج البنيوي مفاهيمه وإجراءاته التطبيقية
***********************************
ظهرت البنيوية كحركة فكرية حديثة لتسود البلاد الغربية والعربية ، ولتتجاوز النزعة التاريخية والفلسفية ، وتأخذ اللغة موضوع دراستها ، رافضة تدخل كل الظروف الخارجية والمرجعيّات الاجتماعية في دراستها بمعنى أنّها قامت بعزل اللّغة لتدرسها في ذاتها ومن أجل ذاتها ، وقد أرسى مبادئ هذه الحركة العالم اللغوي السويسري "فرديناند "دو سوسير "وذلك من خلال المحاضرات التي ألقاها في علم اللغة ، فأصبحت بمثابة مبادئ قامت عليها معظم المناهج النقدية المعاصرة ، ومن بين هذه المناهج "المنهج البنيوي" ، ولكن قبل الشّروع والتعمّق في الحديث عن هذا المنهج يشترط علينا أن نعرّف بمصطلح البنيوية لغة واصطلاحًا.
1- في مفهوم البنيوية :
1-1- البنيوية لغة :
اشتقّت كلمة "بنيوية " من الفعل الثلاثي (بنى ) وتعنى البناء أو الطريقة وكذلك تدّل على معنى التشييد والعمارة والكيفية التي يكون عليها البناء أو الكيفية التي شيّد بها (1) .
ولو عدنا إلى الجذور الغربية لهذه الكلمة لوجدنا أنها مشتقة من الفعل اللاتيني "Struere" الذي يعني البناء والتشييد ، لذلك فكلمة البنية في معناها تحمل معنى "الكلّ " أي ترابط الأجزاء فيما بينها مما يجعلها متماسكة (2)، لذلك فأبسط تعريف للبنية هو :" أنها نظام
–أو نسق – من المعقولية ، فليست "البنية " هي ((صورة)) الشيء أو ((هيكله ))أو ((وحدته الذاتية)) أو ((التصميم الكلّي)) الذي يربط أجزاءه فحسب ، وإنّما هي أيضا ((القانون)) الذي يفسّر تكوين الشيء ومعقوليته (1).
أمّا بالنسبة إلى المعاجم الأوروبية فهي تنص على أنّ " فنّ المعمار يستخدم هذه الكلمة منذ منتصف القرن السابع عشر، ولا يبعد هذا كثيرا عن أصل الكلمة في الاستخدام العربي القديم للدّلالة على التشييد والبناء والتركيب ، وتجدّر الإشارة إلى أنّ القرآن الكريم استخدم هذا الأصل "(2)، ومن أمثلة ذلك ما ورد في قوله تعالى :" ابنوا عليهم بنيانا " [الكهف :20] وقوله أيضا :" الذي جعل لكم الأرض فراشا والسّماء بناءً " [البقرة :22] .
جاءت كلمة "بنية" عند العرب كمقابل للإعراب ، ومن هنا جاءت تسميّتهم للمبني للمعلوم والمبني للمجهول ، أمّا في اللغات الأوروبية القديمة كانت تستخدم للدلالة على الشكل الذي يشيّد به المبنى ثم اتسعت لتشمل طريقة وكيفية ترابط الأجزاء داخل نظام معيّن (3) .
ولذلك فإنّ "البنية" هي ما يكشف عنها التحليل الداخلي لكلّ ما والعناصر والعلاقات القائمة بينها ، ووضعها والنظام الذي تتخذه ، ويكشف هذا التحليل عن كل العلاقات الجوهرية والثانوية ، معتبرا أنّ النّوع الأوّل هو الذي يكوّن بنية التي تعدّ هيكل الشيء الأساسي والتصميم الذي أقيم طبقا له ، والذي يمكن الوصول إليه واكتشافه في أشياء أخرى شبيهة "(1)، بمعنى أنّ البنية هي شبكة علائقية متّحدة الأجزاء ومتماسكة ، بحيث يسمح التحليل الداخلي لهذه الأجزاء بالكشف عن علاقاتها ، أي أنّ البنية هي التي تتيح الفرصّة لمقارنة مختلف الأشياء الموجودة في الواقع .
1-2 البنيوية اصطلاحا :
لقد وجد مصطلح البنية مشكلة في تحديد مفهومه مما أدّى إلى تعدّد التّعريفات والمفاهيم لهذه الكلمة ، إذ نجد مجموعة من النقاد اللغويين يختلفون في إعطاء مفهوم قارّ لهذا المصطلح.
تعرّف البنية على أنّها " نسق من العلاقات الباطنة (المدركة وفقًا لمبدأ الأولوية المطلقة للكلّ على الأجزاء ) له قوانينه الخاصة المحايثة من حيث هو نسق يتصف بالوحدة الداخلية والانتظام الذاتي، على نحو يضفي فيه أي تغيّر في العلاقات إلى تغيير النسق نفسه ، وعلى نحو ينطوي معه مجموع الكلّي للعلاقات على دلالة يغدو معها النسق دالّا على معنى "(2)، أي أنّنا نرى أنّ البنية في مجموعها كل مكوّن من عناصر متماسكة يتوقف كل عنصر منها على ماعداه .
وفي تعريف آخر لها هي :" مجموعة من الأجزاء المترابطة معا "(2) مثال ذلك محرك السيّارة إذا نزعنا عنصرا من عناصره تعطّل لأنّ كل عنصر مرتبط بعنصر آخر ولكل عنصر وظيفة يقوم بها و بإرتباط هذه العناصر تكوّن محركًا (بنية ).
أمّا بالنّسبة لـ"جان بياجيه" فإنّه يعرّف " البنية بقوله أنّها " نسق من التحولات ، له قوانينه الخاصّة باعتباره نسق في (مقابل خصائص المميّزة للعناصر) علمًا بأنّ شأن هذا النسق أن يظلَّ قائمًا ويزداد ُثراءً بفضل الدّور الذي تقوم به تلك التحولات نفسها ، دون أن يكون من شأن هذه التحولات أن تخرج عن حدود ذلك النسق أو أن تهيب بأية عناصر أخرى تكون خارجة عنه" (1) .
وما ورد في قول "صلاح فضل" مشيرا أنّها "لا توجد مستقلة عن سياقها المباشر الذي تتحدّد في إطاره ، ومن هنا فإنّ التعريفات الاجتماعية والتاريخية والثقافية والاقتصادية والأدبية للبنية لا تجعل بوسعنا استنتاج تعريف دقيق، ويظلّ أمامنا أحد الاحتماليين : إمّا أن تعتمد البنية على تصوّر وظيفي، وإمّا أن تكون ذات طابع فرضي استنباطي" (2)، بمعنى أنّ البنية لا تقوم على تعريف ثابت ودقيق لأنّها غير مستقلّة عن سيّاقها الخارجي سواء كان اجتماعي أو ثقافي ...الخ ، وإمّا أن تكون تصوّر ذهني يؤدي وظيفة أو ذات طابع افتراضي .
أمّا "ليفي شترواس" يقرّ بكلّ بساطة أنّ " البنية تحمل –أولا وقبل كل شيء- طابع النسق أو النظام فالبنية تتألف من عناصر يكون في شأن أي تحوّل يعرض للواحد منها أن يحدث تحوّلا في باقي العناصر الأخرى" (1)، فالبنية تتميز بوحدة النظام وتماسكه فتحوّل أيّ عنصر داخل هذا النظام يقتضي بالضرورة تحوّل في باقي العناصر .
كما نجد أحد خصوم البنيوية يقدم تعريف آخر للبنية هو "ألبير سربول" فيقول :" إنّ مفهوم البنية له مفهوم العلاقات الباطنة الثابتة المتعلّقة وفقًا لمبدأ الأولويّة المطلقة للكلّ على الأجزاء ، بحيث لا يكون من الممكن فهم أيّ عنصر من عناصر البنية خارجًا عن الوضع الذي يشغله داخل تلك البنية ،أعني داخل المنظومة الكلية الشاملة" (2) والمقصود من هذا القول أنّ البنية تتميّز بطابع الشّمولية بحيث لا يمكن فهم أيّ عنصر إلاّ من خلال الوظيفة التي يؤدّيها داخل المنظومة.
وعلى الرّغم من تعدّد مفاهيم مصطلح "البنية " إلّا أنّه يمكن أن نأخذ في الأخير بمفهوم "لالاند" الذي يقدّمه في معجمه الشّهير ذاكراً أنّ "البنية هي كل مكوّن من ظواهر متماسكة يتوقّف كل منها على ما عداه ،ولا يمكنه أن يكون ما هو إلّا بفضل علاقاته بما عداه"(3) بمعنى أنّ العناصر التي تكوّن البنية تكون متماسكة ومتّحدة بحيث تكون وظيفة كل عنصر مرتبطة بعنصر آخر .
ومن خلال كل ما سبق من تعريفات يمكننا أن نستنبط خصائص تميّز هذه البنية نعدّدها كالآتي :
أ/ الشمولية : هي سمة من السمات التي تميّز البنية " يعنى إتساق وتناسق البنية داخليًا، أي أنّ وحدات البنية تتّسم بالكمال الذّاتي وليست مجرّد وحدات مستقلّة ، جمعت معًا قسرًا وتعسفًا بل هي أجزاء تتّبع أنظمة داخلية من شأنها أن تحدّد طبيعة الأجزاء وطبيعة اكتمال البنية ذاتها، وهكذا تضفي هذه القوانين خصائص أشمل وأعم من خصائص الأجزاء التي تتكون منها البنية، كما أنّ هذه الأجزاء تكتسب طبيعتها وخصائصها من كونها داخل هذه البنية لا من كونها تنطوي على هذه الخصائص من دون دخولها في البنية وعلاقاتها (تماما هو وضع المفردة في الجملة) "(1) بمعنى أنّها هي الناتج المترتب عن ترابط الأجزاء و التّآلفات المكوّنة للبنية، ويفهم من خلال هذا التّعريف أنّ البنية تتّسم بالكليّة ومفادها أنّها مكتفية بذاتها ومترابطة العناصر في النّظام الكلّي ولا تحتاج إلى وسيط خارجي.
ب/ التحوّلات : هي الخاصية الثانية من خصائص البنية ،فهي كل تغيير يحدث داخلها فالبنية لا تعرف الثبات والإستقرار، فهي في حركة دائمة ذلك "أنّ ((المجاميع الكليّة)) تنطوي على ديناميكية ذاتية تتألف من سلسلة من التغيرات الباطنة التي تحدث داخل ((النسق )) أو ((المنظومة )) ، خاضعة في الوقت نفسه لقوانين (( البنية )) الداخلية دون التوقف على أيّة عوامل خارجية . وليس الحديث عن ضرب من (( التوازن الديناميكي )).-عند بعض دعاة البنيوية- سوى تعبير عن هذه الحقيقة الهامّة ألا وهي أنّ البنية لا يمكن أن تظلّ في حالة سكون مطلق بل هي تقبل دائما من ((التّغييرات )) ما يتفق مع الحاجات المحدّدة من قبل ((علاقات)) النّسق و((تعارضاته))"(1) بمعنى أنّ عناصر البنية في تحوّل دائم وهي خاضعة لقوانين داخليّة يفرضها النّظام الموجودة فيه ، فهي التي تفرض وتبرّر تحوّلات هذه العناصر.
ج- التنظيم الذاتي :
هي الخاصيّة الثالثة للبنية، وهي تنظيم يحدث داخلها بحيث أنّ عناصرها تنظم نفسها بنفسها، مما يحفظ لها وحدتها وتماسكها وهو " يتعلق بكون البنية لا تعتمد على مرجع خارجها لتبرير وتعليل عملياتها وإجراءاتها التحويلية ، فالتحوّلات تعمل دائما على صيانة القوانين الداخلية و دعمها ، تلك التي تخلق وتبرر هذه التحوّلات ، وتعمل كذلك على إغلاق النظام كي لا يحيل أو يرجع إلى غيره من الأنظمة، بمعنى أنّ اللغة لا تبني تكويناتها ووحدتها من خلال رجوعها إلى أنماط (( الحقيقة )) الخارجية ، بل من خلال أنظمتها الداخليّة الكاملة، فالمفردة داخل الجملة تعمل وتتحرك ليس لأنّها تحيل إلى ما هو خارجها (الطالب مثلا) وإنّما لأنّ موقفها وتصريفاتها الأفقية والعمودية تؤدي إلى إفراز وظائفها وتهيئ لها عملية الدلالة و الإحالة"(1) ، بمعنى أنّها لا تحتاج إلى عامل خارجي لينظمها، بل تنظّم نفسها بنفسها دون الرجوع إلى المؤثرات الخارجية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق